اختر صفحة

أَتَاكُمْ رَمَضَانُ
لعظمة شهر رمضان وما فيه من الهبات الجليلة والعطايا الإلهية والمنح الربانية, ولفضله على سائر الشهور, وما خص الله به أيامه ولياليه من عبادات فاضلة, يحصد به المؤمن الأجور العظيمة والحسنات المضاعفة؛ فإن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يبشر أصحابه بقدوم هذا الشهر المبارك؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ-، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ” (أحمد والنسائي وصححه الألباني).

إنها بشارة عظيمة حُقَّ للمسلم أن يستبشر بها, ويبشر بها غيره من المؤمنين, وحسبنا أن تكون البشارة على لسان رسول الله -عليه الصلاة والسلام-, ترغيباً وتهيئةً للنفوس للعبادة والإكثار من الطاعة, وفتح باب الرجاء لأهل المعاصي بموسم المغفرة والرحمة والقرب من المولى -سبحانه-, وقد ذُكر في هذا الحديث فضائل لشهر رمضان اجتمعت كلها فيه, كل فضيلةٍ منها بشارة عظيمة بنفسها:

الأولى: أنه شهر بركة؛ والبركة هي زيادة الخير, وبركة رمضان بمضاعفة ثواب الحسنات والأعمال الصالحة, وفي الحديث الصحيح قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: “كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ”(متفق عليه), قال ابن رجب: “الصيام لا يعلم منتهى مضاعفته إلا الله -عز وجل-، وكلما قوي الإخلاص فيه وإخفاؤه وتنزيهه من المحرمات والمكروهات كثرت مضاعفته”.

الثانية: تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار, وفي سنن الترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إذا كان أول ليلة من رمضان: غُلِّقت أبواب النار, فلم يُفتح منها باب, وفُتِّحَتْ أبوابُ الجنة, فلم يُغْلَقْ منها باب, وينادي مناد: يا باغي الخير, هَلُمَّ وأقْبِلْ, ويا باغِيَ الشَّرِّ أقْصِر، ولله فيه عُتَقَاءُ من النَّار, وذلك في كل ليلة, حتى ينقضيَ رمضانُ”.

الثالثة: تصفد فيه الشياطين وتغل, ولذلك “لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره؛ لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات وبقراءة القرآن والذكر” (فتح الباري), وأثر ذلك ظاهر في رمضان فنرى إقبال المسلمين على المساجد والالتزام بالصلوات, وكثرة فعل الخير, والإنابة إلى الله -تعالى-, وقلة المعاصي والذنوب, وروحانية يشعر بها المسلم لا يحس بها في غير رمضان.

الرابعة: فيه ليلة القدر, وهي الليلة المباركة التي قال الله في شأنها: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3], وهكذا تتابع البركة ويتضاعف الخير لهذا الشهر, فهذه الليلة خير من ألف شهر, {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1-5].

الخامسة: لله في كل ليلة عتقاء من النار؛ فعن أبي أُمامة -رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: “لله عند كل فطر عتقاء” (رواه أحمد), وهذا من عظيم كرم الله -تعالى- وسعة رحمته وعفوه ومغفرته, فينبغي للمؤمن أن يتعرض لهذا الكرم الإلهي بكل سبب وعملٍ صالح يخلص فيه نيته, ويرجو أن يكون به خلاصه من النار وفوزه بالجنة.

فنحمد الله أن بلغنا شهرَ رمضان؛ فتلك -والله- نعمة عظيمة, لمن وفقه الله وأقدره عليها, قال أَبِو هُرَيْرَةَ, -رضي الله عنه-: جَاءَ رَجُلاَنِ مِنْ بَلِيٍّ مِنْ قُضَاعَةَ، فَأَسْلَمَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا وَأخّرَ الآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً, قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ -رضي الله عنه-: فَرَأَيْتُ كَأَنِّي أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَصْبَحَت فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: “أَلَيْسَ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى بَعْدَهُ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةٍ صَلاَةَ السّنة؟” (رَوَاهُ أَحْمَدُ وحسنه الألباني).

إن طول العمر إذا وفق العبد فيه لطاعة الله -تعالى- ومرضاته دليل على خير؛ فقد سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: “مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ” (رواه الترمذي وصححه الألباني), وقال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: “لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلامِ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ” (رواه أحمد وحسنه أحمد شاكر), وقد دلّ هذا الحديث العظيم على فضلِ من طال عمرُه وحسُن عملُه، ولم يزل لسانُه رَطْباً بذكر الله -عز وجل-.

لقد أدرك سلفنا الصالح مكانة رمضان ومنزلته, فكانوا يدعون الله -تعالى- أن يبلغهم رمضان، وكان من دعائهم: “اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلا”, وكانوا يسألون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فإذا بلغوه سألوه الله أن يوفقهم فيه، فإذا أكملوه سألوا الله بقية السنة أن يتقبله منهم.

رمضـانُ أقبلَ يا أوليِ الألبابِ *** فاستقبِلـوهُ بعد طولِ غيابِ

عامٌ مضى من عمرِنا في غفلةٍ *** فتنبَّهُوا فالعمرُ ظِلُّ سـحابِ

وتهيَّؤوا لتَصَـبُّرٍ ومَشَــقَةٍ *** فأُجُورُ مَن صبروا بغيرِ حسابِ

كم ممن أمَّل أن يصوم هذا الشهر فأتى أجله؛ فصار إلى ظلمة القبر وحده! وكم من مستقبلٍ يوما لا يستكمله، ومؤملٍ غدا لا يدركه! فاحمدوا الله أن بلغكم هذا الشهر فأطال أعماركم لتدركوه, فاستقبلوه بشوقٍ وفرح, وهيئوا أنفسكم للعمل الصالح والطاعة.