جاء اسم الله “الخبير” في كثير من الآيات مقترنًا بغيره من الأسماء الحسنى؛ فقد جاء مقترناً باسم الله الحكيم؛ كقول الله -تعالى-:
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18]،
ومقترنا باسم الله العليم، قال الله -تعالى-:
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35],
ومقترنًا باسم الله اللطيف؛ كما في قوله -تعالى-:
{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ} [الأنعام: 103]،
ومقترنا بالبصير؛ كقوله -سبحانه-:
{وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء:17].
والخبير لغة: يُطلق على العارف بالشيء العالم بحقيقته وبتفاصيله، والخبير -سبحانه- هو المنفرد بالعلم وحده، قال ابنُ جرير: “العليمُ بسرائِرِ عبادِهِ وضمائِرِ قُلوبِهم، الخبيرُ بأمورِهِم الذي لا يَخفَى عنه شَيءٌ”(تفسير الطبري:12-151)، وقال ابن القيم: “الخبير: الذي انتهى علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظواهرها”(الصواعق المرسلة:2-492).
فلا يخفى على الخبير -سبحانه- شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يتحرك متحرك ولا يسكن إلا بعلمه، ولا تستقيم حياة أي شيء إلا بأمره، قال -تعالى-:
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34],
ولا يجري شيء في الفلك والملكوت إلا والخبير يعلمه، قال -تعالى-:
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:73].
/
واسم الله الخبير يدل تمام العلم والخبرة والإحاطة بتفاصيل الأشياء، قال -تعالى-:
{كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف:91]؛
أي: إحاطة تامة بما كان لدى ذي القرنين من قوة وجنود وإمكانات وآلات وخبرة، وغير ذلك من أسباب النفوذ والملك والغلبة والسلطان، وقد ذكر الله كمال علمه بخلقه وإحاطته بهم، فقال -عز وجل-:
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ} [الملك:14].
وهناك اجتماعٌ بين العليم والخبير من حيث أنهما تضمنا علم الله -تعالى- المحيط بكل شيء, ولكن الخبير أدق من حيث علمه بخفايا الأمور, قَالَ الْغَزَالِيُّ: “الْعِلْمُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْخَفَايَا الْبَاطِنَةِ سُمِّيَ خِبْرَةً وَسُمِّيَ صَاحِبُهَا خَبِيرًا” (المقصد الأسنى؛ للغزالي:103)، وقال الشيخ ابن عثيمين: “الخبرة هي العلم ببواطن الأمور، والعلم بالظواهر لا شك أنه صفة مدح وكمال، لكن العلم بالبواطن أبلغ؛ فيكون عليم بالظواهر، وخبير بالبواطن، فإذا اجتمع العلم والخبرة صار هذا أبلغ في الإحاطة، وقد يقال إن الخبرة لها معنى زائد عن العلم، لأن الخبير عند الناس هو العليم بالشيء الحاذق فيه، بخلاف الإنسان الذي عنده علم فقط، ولكن ليس عنده حذق، فإنه لا يسمى خبيراً، فعلى هذا يكون الخبير متضمناً لمعنى زائد على العلم”( تفسير الحجرات – الحديد؛ لابن عثيمين:59).
أخي المسلم: اعلم أن من آمن بأن الله خبيرٌ بأحوالِهِ وتفاصيله كلها؛ احترز في أقواله وأفعاله، وحاسب نفسه عن كل صغيرة وكبيرة، واستشعر مراقبة الله له في جلواته وخلواته؛ فلا يحب أن يطلع الله من سره إلا ما هو أحسن منه جهرة.
فلتحذر -أيها المؤمن- أن تكون ذنوبك سبباً في هلاكك يوم القيامة, قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-:
“لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَبَاءً مَنْثُورًا” قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: “أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ, وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا”. (رواه ابن ماجه:3442, وصححه الألباني).
وينبغي للمسلم الموقن بعلم الله وخبرته المحيطة بكل شيء أن يطمئن لاختيار الخبير -تعالى- والثقة به؛ فإن أثر اسم الله الخبير في سلوك العبد يتمثل في اعتماده على اختيار ربه في كل صغيرة وكبيرة من أمره؛ فطالما آمن العبد بأن الله هو الخبير سلّم له في جميع شؤونه، وهذا شأن أهل الإيمان أن يسلموا إليه أمورهم؛ ثقةً في كمال تدبيره.
كما ينبغي للمسلم أن يحرص على أن يتجلى اعتماده على اختيار ربه في كل صغيرة وكبيرة من أمره؛ فيجعل حوله وقوته، واعتماده وثقته وتوكله على ربه الحكيم الخبير، فيستخير الخبير -سبحانه-، ويرضى بما اختاره له.
لقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- كل عبد مؤمن على استخارة الخبير -تعالى-, عند إقدامه على أمر مستقبلي لا دراية له بعاقبته؛ كسفرٍ أو زواجٍ أو وعمل أو غير ذلك، قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمنا الاستخارةَ في الأمورِ كلِّها، كما يعلِّمنا السورةَ من القرآن، يقول:
“إذا هَمَّ أَحَدُكُمْ بالأمر فَلْيَرْكَعْ ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللَّهُمَّ إني أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ من فَضْلِكَ الْعَظِيمِ؛ فإنك تَقْدِرُ ولا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ ولا أَعْلَمُ، وأنت عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ فإنْ كنتَ تَعْلَمُ هذا الأَمْرَ ويسميه باسمه خَيْرا لي في دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أمري فَاقْدُرْهُ لي وَيَسِّرْهُ لي، ثم بارك لي فيه، اللَّهُمَّ وإنْ كنتَ تَعْلَمُه شَرًّا لي في دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أمري فَاصْرِفْنِي عنه، وَاصْرِفْهُ عني، وَاقْدُرْ لي الْخَيْرَ حيث كان ثم رَضِّنِي به” (رواه البخاري:7390).
لِيوقنِ المؤمنُ أنه مكشوف أمام الله، لا تخفى عليه منه خافية؛ فيراقبه في جميع أحواله وخواطره؛ بتهذيب سره وتطهير باطنه، ويخلص أعماله لله وحده.