أعظمُ أيامِ الدنيا
في سياق الآيات القرآنية التي تتحدث عن الحج، يقول الله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الحج:28]، والأيام المعلومات هي العشر من ذي الحجة ذهب إلى ذلك أكثر المفسرين، وهي أيامٌ فاضلاتٌ مباركات، “فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع في غيرها… وفي أيام عشر ذي الحجة، الوقوف بعرفة، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان، فما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة، لما يرى من تنزل الأملاك والرحمة من الله لعباده، ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة، وهذه أشياء معظمة”(تفسير السعدي).
ولمكانتها أقسم الله تعالى بها فقال: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ)[الفجر:1-3]، والمراد به بالفجر: فجر يوم النحر وهو خاتمة الليالي العشر، (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) المراد بها عشر ذي الحجة، والشفع: العاشر منها وهو يوم النحر، والوتر: التاسع منها وهو يوم عرفة. (ينظر تفسيري: الطبري وابن كثير)، قال ابن كثير رحمه الله: “فَهَذَا الْعَشْرُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَفْضَلُ أَيْامِ السَّنَةِ، كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، فَفَضَّلَهُ كَثِيرٌ عَلَى عَشْرِ رَمَضَانَ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ هَذَا يُشْرَعُ فِيهِ مَا يُشْرَعُ فِي ذَلِكَ، مِنْ صِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ وَغَيْرِهِ، وَيَمْتَازُ هَذَا بِاخْتِصَاصِهِ بِأَدَاءِ فَرْضَ الْحَجِّ فِيهِ. وَقِيلَ: ذَاكَ أَفْضَلُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ، الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. وَتَوَسَّطَ آخَرُونَ فَقَالُوا: أَيْامُ هَذَا أَفْضَلُ، وَلَيَالِي ذَاكَ أَفْضَلُ. وَبِهَذَا يَجْتَمِعُ شَمْلُ الْأَدِلَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ”(تفسير ابن كثير).
لقد اجتمع في هذه الأيام المباركة ما لا يجتمع في غيرها من العبادات، والأيام الفاضلات، ففيها: الحج والعمرة، والصوم، والذكر من التكبير والتهليل والتحميد، والتقرب إلى الله بإهراق الدماء بذح الأضاحي؛ كما أنها تشتمل على أيامٍ معظمة، وردت النصوص الشرعية بتفضيلها على غيرها من الأيام؛ فاجتمع فضل العشر بالجملة مع فضل هذه الأيام، ففيها:
يوم عرفة: وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وفي فضله روت عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟”(رواه مسلم)، وعن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ”(رواه مسلم)، وعن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ”(رواه مالك وضعفه الألباني).
وفيها: يَوْمُ النَّحْرِ يوم العاشر من ذي الحجة، وهو يَوْمُ الحجِّ الأَكبَرِ، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ، وَقَالَ: “هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ”(رواه البخاري)، وسمي بذلك لأن معظم أعمال الحج تكون في هذا اليوم.
وهو خير الأيام عند الله تعالى، قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ”(رواه أبو داؤد وصححه الألباني)، وأما يَوْمُ الْقَرِّ فهو اليوم الذي يلي يوم النحر، يوم الحادي عشر من ذي الحجة أول أيام التشريق، سمي بذلك لأن الناس يقرون فيه بمنى، أي: يسكنون ويقيمون، بعد أن فرغوا من طواف الإفاضة والنحر واستراحوا.
وفيها: أيام التشريق، وهي الأيام الثلاثة التي تلي يوم النحر، وهي أيام الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من شهر ذي الحجة، وهي أيام ذكرٍ وأكلٍ وشربٍ، وشكرٍ لله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ لله”(رواه مسلم)، وفي حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَبْدَالله بنَ حُذَافَةَ يَطُوفُ في مِنًى: “أنْ لاَ تَصُومُوا هذه الأَيَّامَ؛ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ الله عز وجل”(رواه أحمد)، وقال صلى الله عليه وسلم: “يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ”(رواه الترمذي وصححه الألباني).
لأجل هذا كانت هذه الأيام أعظم أيام الدنيا وأفضلها، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتَّى ذلك في غيره”(الفتح)، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ”، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ”(رواه البخاري).
إن الأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة تتضاعف، وأفضل ما ينبغي أن يتعهد من الطاعات هو الفرائض، التي لم يتقرب المتقربون إلى الله بمثلها، ثم بعدها النوافل؛ فعنْ أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ قال: مَنْ عادَى لي وليًّا فقدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تقرِّبَ إليَّ عَبْدي بِشيءٍ أحبَّ إليَّ مِمَّا افْترضتُ عليْه، وما يزالُ عَبْدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحبَّه”(رواه البخاري).
ومن ذلك: الصيام؛ فعَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: “كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ الْعَشْرَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ”(رواه النسائي، وصححه الألباني).
ومنه: الإكثار من ذكر الله تعالى، من التحميد والتكبير والتهليل والتسبيح؛ كما جاء عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ”(رواه أحمد، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح).
فالعمل الصالح في هذه العشر عملٌ متنوِّع، يتنقل المسلم من عبادة إلى عبادة، ومن طاعة إلى طاعة؛ اغتناماً لهذه الأوقات المباركة، والتماساً لكسب مزيدٍ من الحسنات والأجور.