إيمانًا واحتِسَابًا
إن من كرم الله -تعالى- ولطفه بعباده أن جعل لهم من الأعمال الصالحة ما هو مكفراتٌ لذنوبهم, ومن تلك الأعمال صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر, كلها عبادات رمضانية عظيمة بشَّر النبي -عليه الصلاة والسلام- صاحبها بمغفرة ذنوبه, صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” [متفق عليه], وفي فضل قيام رمضان قال: “مَنْ قام رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” [رواه مسلم], وفي قيام ليلة القدر خاصة يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: “من قام ليلة القدر إيمانا, واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه” [متفق عليه], ومعنى قوله: “إيمانًا” أي: تصديقًا بأنه حق؛ فصدق بوجوب صيام رمضان وما في صيامه من الفضل والأجر, و”احتسابًا” أي: يريد به وجه الله -تعالى- بريئًا من رياء وسمعة.
وهذا الثواب والفضل زيادة على الأجر العظيم المضاعف من الحسنات على الصيام الذي ورد في قوله -صلى الله عليه وسلم- مخبًرا عن ربه -عز وجل-: “كُلُّ عَمَل ابن آدم لَهُ إلاَّ الصومَ فإِنَّه لي وأنا أجزي بهِ”, “فهذا أجره كما ترى لكن لما أن زاد هذا نية الإيمان والاحتساب زيد له في مقابلته مغفرة ما بين رمضان إلى رمضان” [المدخل لابن الحاج], قال ابن عثيمين: “لا يحصل هذا الثواب العظيم إلا لمن جمع بين الوصفين: الإيمان والاحتساب, وأكثر الناس يغفل عن الاحتساب بل يقومون بالعمل؛ لأنه عمل صالح, لكن الاحتساب قليل” [شرح كتاب الصوم من بلوغ المرام].
فالصائم المؤمن بالله يؤمن بفرضية صيام رمضان, وأنه يُصام؛ لأن الله -تعالى- أمرنا به وكتبه علينا؛ فهو يمتثل أمرَ ربه وينفّذ شرعه، ومن صفة أهل الإيمان طاعة الله ورسوله, كما قال -تعالى-: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285], ثم مع إيمانه بفرضيته وتسليمه وامتثاله، يصومه طالباً ثوابه من الله -تعالى- لا يقصد نفعاً ولا جزاءً من الخلق.
والصيام إنما يكفر صغائر الذنوب ولو كثرت, ويدل عليه ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّراتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ”, وأما الكبائر فلا بد لها من توبة نصوح ورد المظالم إلى أهلها.
وكل واحدٍ من هذه الأعمال الثلاث مكفر للذنوب بنفسه, قال ابن رجب: “فدل حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- على: أن هذه الأسباب الثلاثة كل واحد منها مكفر لما سلف من الذنوب وهي: صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر؛ فقيام ليلة القدر بمجرده يكفر الذنوب لمن وقعت له كما في حديث عبادة بن الصامت وقد سبق ذكره، وسواء كانت أول العشر أو أوسطه أو آخره، وسواء شعر بها أو لم يشعر، ولا يتأخر تكفير الذنوب بها إلى انقضاء الشهر.
وأما صيام رمضان وقيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر، فإذا تم الشهر فقد كمل للمؤمن صيام رمضان وقيامه, فيترتب له على ذلك مغفرة ما تقدم من ذنبه بتمام السببين، وهما صيامه وقيامه, وقد يقال: إنه يغفر لهم عند استكمال القيام في آخر ليلة من رمضان بقيام رمضان قبل تمام نهارها, وتتأخر المغفرة بالصيام إلى إكمال النهار بالصوم, فيغفر لهم بالصوم في ليلة الفطر” [لطائف المعارف].
وغفران الذنوب يشمل أمرين: الأول: سترها في الدنيا والآخرة؛ فلا يفضح الله عبده بها فهو -سبحانه- الستِّير الذي يحب الستر, والثاني: عدم المؤاخذة عليها في الآخرة؛ ففي الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إنَّ الله يُدْني المؤمِنَ فيَضَعُ عليهِ كَنَفَهُ، ويستُرُهُ، فيقولُ: أتَعْرِفُ ذنْبَ كذا؟ أتعرِفُ ذنبَ كذا؟ فيقولُ: نعم أيْ ربِّ! حتى إذا قرَّرهُ بذُنوبِهِ، ورأى في نفسهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ: إني سَتَرْتُها عليكَ في الدنيا، وأنا أغفِرُها لكَ اليومَ، فيُعْطى كتابَ حسناتِه”.
واحتساب الأجر من الله -تعالى- ينبغي أن يلازم الصائم القائم في كل الشهر، وليس في أوّله فقط, بل في أوله وفي وسطه وفي آخره, والمحتسب على الله في الأجر يهتم بالصوم أن يكون أداؤه كما أراد الله -تعالى- منه, مبتعداً بصومه عن أي شيء يشوبه من الصخب والرفث والجهل والمعاصي عموماً؛ حتى لا ينقص أجره, ويكتب الله له أجره ويثيبه ما وعده على عمله حسناتٍ مضاعفة.
وينبغي للمسلم إذا صلى التراويح جماعة أن يكملها مع إمامه؛ حتى يكتب في القائمين؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ” مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ” [رواه أهل السنن], وللأسف فإن هناك بعض المسلمين لا يشهدون صلاة التراويح في رمضان تكاسلاً أو اشتغالاً بتجارة أو لهوٍ ولعب، وهؤلاء يحرمون أنفسهم خيراً كثيراً؛ فهل نسيَ هؤلاء فضل قيام الليل وثوابه، وما أُعِدّ لأهله وأربابه؟! وهل تجاهلوا أنهم في شهر الرحمة والغفران والبركة والإحسان؟! أما يكفي في شحذ هِمَمهم وتحريك نفوسهم ما وعدهم النبي -عليه الصلاة والسلام- من غفران ذنوبهم؟! ألسنا نحب غفران ذنوبنا ومحو سيّئاتنا؛ فلماذا نتكاسل ونغفل؟!.
إن الواجب على المسلم أن يكون صومه وقيامه إيماناً وتصديقاً بأنه فرضٌ فرضه الله عليه, وأن ما وعده الله -تعالى- عليه من الأجر والثواب كائنٌ لا محالة, وهذا الإيمان دافعٌ للإخلاص في العمل فيعمله لله -تعالى- لا رياءً ولا سمعة, ولا تقليداً للناس أو متابعة لأهله وبلده, وهكذا في قيام رمضان وقيام ليلة القدر يجب أن يصحح المسلم في النية, ويحتسب أجره عند الله ولا يظن في الله إلا خيراً.
اللهم اجعلنا ممن صام رمضان إيماناً واحتساباً, وممن قام رمضان إيماناً واحتساباً, وممن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً, اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم, وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.