اختر صفحة

الحجُّ عرفة

 

 

 

 “الْحَجُّ عَرَفَةُ” [رواه أحمد وأصحاب السنن], “أَيْ مُعْظَم الْحَجّ وَرُكْنه الْأَكْبَر” [الفتح], هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام مبينا أهمية الوقوف بعرفة، وأنه ركن الحج الأعظم، فمن لم يقف بعرفة فقد فاته الحج، فينبغي للحاج أن يقف في أي مكان من عرفة, قال النبي صلى الله عليه وسلّم: “وَقَفْتُ هَاهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ” [رواه مسلم].

 

 

 

إذا زالت الشمس صلى الحجيج الظهر والعصر جمعاً وقصراً، ويخطب الإمام قبل الصلاة خطبةً تناسب المقام يعظ فيها ويذكر, ثم يتفرغ الحاج بعد الصلاة لمناجاة ربه, للذكر والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل, روى البخاري عن محمدِ بن أبي بكرٍ الثَّقَفيِّ أنه سألَ أَنسَ بن مالكٍ رضي الله عنه، وهُما غادِيان من منىً إلى عرَفةَ: كيفَ كنتم تَصنعونَ في هذا اليومِ معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان يُهلُّ مِنَّا المُهِلُّ -وفي روايةٍ: يلبِّي الملبِّي-، فلا ينكَرُ عليهِ، ويكبِّرُ منَّا المكبِّرُ، فلا يُنكَرُ عليهِ” [متفق عليه].

 

 

 

ينبغي على المسلم أن يعرف ليوم عرفة قدره فلا يضيع وقته فيما لا ينفع, بل يحرص على استغلال كل دقيقةٍ ولحظةٍ منه, فهو وقت مبارك فاضل, والمغبون من ضيَّع أوقاته دون فائدة, فكيف إذا كانت هذه الأوقات مباركة؛ تضاعف فيها الحسنات, وتتنزل فيها الرحمات, ويكثر الله فيها لعباده من العطايا والهبات, فعلى المسلم أن يستغل وقته بما يأتي:

 

أولا: الإكثار من شهادة التوحيد بصدق وإخلاص.

 

ثانيا: الإكثار من الدعاء بالمغفرة والعتق من النار.

 

ثالثا: التوبة الصادقة وكثرة الاستغفار.

 

رابعا: الإكثار من فعل الخيرات، وبذل المعروف، والإحسان إلى الناس.

 

خامساً: محاسبة النفس, وتأمل حاله مع ربه سبحانه, فإن كان من أهل الطاعة عزم على الاستمرار والزيادة, وإن كان من أهل التقصير عزم على إعمار باقي عمره بالطاعة. 

 

 

 

إن يوم عرفة يوم عظيم, يدنو الله تعالى فيه من عباده, ويباهي بهم الملائكة, فينبغي أن يشتغل الحاج فيه بالإقبال على الله تعالى, فلا يرى إلا متعبداً ذاكراً, متنقلاً من عبادةٍ إلى أخرى, وقد ورد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” [رواه والترمذي].

 

 

 

وبعد زوالِ الشمسِ كان وقوفُنا *** إلى الليل نبكي والدعاءُ أطلناه

 

فكم حامدٍ كم ذاكرٍ ومسبِّحٍ *** وكم مذنبٍ يشكو لمولاه بلواه

 

فكم خاضعٍ كم خاشعٍ متذللٍ *** وكم سائلٍ مُدت إلى الله كفَّاه

 

فإبليسُ مغمومٌ لكثرة ما يرى *** من العتق محقوراً ذليلاً دحرناه

 

على رأسِه يحثو الترابَ مناديا *** بأعوانه: ويلاه ذا اليومَ ويلاه

 

 

 

الله أكبر! ما أعظم يوم عرفة! لله فيه عتقاء من النار, والله تعالى أكثر عتقاً لعباده في هذا اليوم من أي يومٍ آخر, فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟” [رواه مسلم], فليتعرض المؤمن لهذه النفحات الربانية, وليأت بأسبابها ليكون من أهلها, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ لِرَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ؛ فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا” [رواه الطبراني], وفي رواية: “افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ” [حسنه الألباني].

 

 

 

فلله ذاك الموقفُ الأعظمُ الذي *** كموقفِ يوم العرضِ بل ذاك أعظمُ

 

ويدنو به الجبارُ جلَّ جلاله *** يُباهي بهم أملاكَه فهو أكرمُ

 

يقولُ عبادي قد أتوني محبةً *** وإني بهم برٌّ أجودُ وأكرمُ

 

فأشهدُكم أني غفرتُ ذنوبَهم *** وأعطيتُهم ما أمَّلوه وأنعِمُ

 

فبُشراكُم يا أهلَ ذا الموقفِ الذي *** به يغفرُ اللهُ الذنوبَ ويرحمُ

 

فكم من عتيقٍ فيه كُمَّل عتقُه *** وآخر يستسعى وربُّكَ أكرمُ

 

 

 

فقبيحٌ بالحاج وهو في هذا اليوم العظيم, وتلك البقعة المباركة, متلبساً بعبادة الحج, بين جموع الخاشعين الذاكرين الباكين, أن يشتغل بفضول الكلام ويكون حديثه في أمور الدنيا, أو أن يضيَّع أو قاته بما لا يعود عليه بالنفع في دنياه وآخرته, فضلاً أن يُشغِل لسانه بمعصيةٍ؛ كغيبةٍ أو نميمةٍ أو سبٍ أو سخريةٍ ونحو ذلك مما يضر ولا ينفع!.

 

 

 

وأما غير الحاج فيشرع له -زيادة على ما سبق- صيامُ يوم عرفة, فبه تكفر السيئات والذنوب, عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ, وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ” [رواه مسلم].