تَأَهَبُوا لَهُ … (الشتاء)
أما بعد:
فتأهبوا له…
تأهبوا لعدوٍ سريعٍ دُخولُه، بطيءٍ خُروجُه.
تأهبوا لعدوٍ قاتلٍ، يفتكُ بالضعفاءِ، وذوي الحاجاتِ والفقراءِ، ولا يكادُ يسلمُ فيه أحدٌ من حُمَّى أوْ مرضٍ.
تأهبوا لذاك الذي كان أميرُ المؤمنين عمرُ رضي الله عنه يخشاهُ على رعيتِهِ، ويُوصي أجنادَهُ في الشامِ أن يَحتاطُوا من أجلِهِ، وكانَ يقول:
“إن الشتاءَ قد حضر، وهو عدو، فتأهبوا له أُهبته من الصوفِ والخِفافِ والجواربِ، واتخذوا الصوفَ شعارًا ودثارًا، فإن البردَ عدوٌ سريعٌ دخولُه، بعيدٌ خروجه”.
الشتاءُ: مخلوقٌ من مخلوقات الله تعالى، يتكرر علينا كل عام، يحملُ معه جملةً من العبرِ والمواعظِ والأحكامِ.
ففي الشتاء: نجددُ الإيمانَ بالله وقدرته وحكمته، وما أعده للطائعين من خيراته وجناته، وما توعدَ به العاصين من أهوالِه ونيرانِه.
فالناظر – بعد نزول الأمطار – إلى المروج الخضراء، وشلال الماء، وجريان الأودية وجمال الأجواء؛ يتذكرُ جنة الله التي ليس فيها مما في الدنيا إلا الأسماء.
والذي يقْرُصُه بردُ الشتاء يتذكرُ حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا ربِّ أكلَ بعضي بعضًا، فأذِنَ لها بنَفَسَين: نفسٍ في الشتاءِ ونفسٍ الصيف، فهو أشدُّ ما تجدون من الحرِّ وأشدُّ ما تجدون من الزّمهرِير».
وفي الشتاء: ينزلُ المطرُ بخيراتِه وبركاتِه، ماءً طهورًا، كما قال الله تعالى: {وأنزلنا من السماءِ ماءً طهورًا} فيبُلُّ الارضَ ويُصيبُ الثياب، ونَستحضرُ مع ذلك عِلمنَا بطُهُوريتِه، فلا نوسوسُ فيما يصيبنا من وَحَلِ الأرضِ، أو يقطرُ علينا من جدارٍ أو مِيزاب.
ويشتدُّ المطرُ ويكثرُ الوحلُ ويشقُّ على الناسِ الوصولُ للمساجدِ، وقضاءِ حوائِجهِم، ويَلزمونَ بُيوتهم؛ فيباحُ لهم عندَ ذلك الصلاةُ في رِحَالهم، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: «كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمرُ المؤذنَ إذا كانت ليلةً باردةً ذاتَ مطرٍ؛ أن يقول: ألا صلوا في الرّحال» متفق عليه.
ويباحُ الجمعُ في المساجد بين الظهرِ والعصرِ، والمغربِ والعشاءِ، عندَ وجودِ المشقةِ كما سبق.
وفي الشتاء: يعظمُ أجرُ المحافظين على إسباغِ الوُضوءِ وتعاهدِ أعضائه بالماء، دون سرعةٍ مُخلةٍ؛ وفي الحديثِ الصحيحِ يقولُ صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا أدُلكم على ما يَمحُو اللهُ به الخطايا ويرفعُ به الدّرجاتِ – وذكر منها – إسباغَ الوضوءِ على المكارهِ»
وفي الشتاء: يحتاجُ البعضُ إلى التيممِ لعدمِ الماءِ، أو عدمِ القدرةِ على استعمالِهِ؛ فيَضربُ الصعيد َضربةً واحدةً يمسحُ بها وجهَهُ وظاهرَ كَفّيهِ.
وفي الشتاء: يَلبسُ الناسُ الخِفافَ والجواربَ، فيباحُ لهم المسحُ عليها، متى ما لبِسَها المرءُ على طهارةٍ، وكانت ساترةً للقدمين، وطاهرةً في نفسِهَا، ومباحةً، وفي المدةِ المحددةِ: يومٌ وليلةٌ للمقيمِ، وثلاثةُ أيامٍ بلياليهنّ للمسافر، تبتدِئُ المدةُ: من أوّلِ مسحةٍ بعدَ الحدثِ، يمسحُ المرءُ أعلى الخفِّ دونَ باطِنِه، ويتجنّبُ المسحَ على الشّرابِ الذي لا يسترُ الكعبين، ويُعفى عن الشقوقِ اليسيرةِ.
وفي الشتاء: يلبسُ الناسُ القُفازاتِ، ويصلونَ بها، ولا بأسَ بذلكَ، ويلبسونَ أغطيةً على رؤوسهم ولا يمسحون عليها؛ إلا إذا كانَ يشقُّ نَزْعُها.
بارك الله لي ولكم….
الخطبة الثانية
أما بعد:
وفي الشتاء: يحرصُ الكثيرونَ على التدفئةِ بإشعالِ النارِ، وقد جاءتِ الشريعةُ بالحثِّ على أخذِ الحيطةِ والحذرِ منها؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تتركوا النارَ في بيوتكم حينَ تنامون))، وحينَ حُدِّثَ أنّ بيتًا في المدينةِ احترقَ في الليلِ قال عليه الصلاة والسلام: ((إنّ هذهِ النارَ إنما هي عدوٌ لكم، فإذا نِمتم فأطفئوها عنكم)) متفق عليه.
وفي الشتاء: يسهلُ الصيامُ والقيامُ، وتلكَ هيَ الغنيمةُ الباردةُ كما في بعضِ الآثار.
وفي الشتاء: يتمثلُ المؤمنُ سُنةَ نبيهِ صلى الله عليه وآله وسلم عند نزولِ الأمطارِ، وهُبوبِ الرياحِ، ورُؤيةِ البرقِ وسماعِ صوتِ الرعدِ والصواعقِ؛ فينسِبُ الفضلَ لربِهِ، ويَسألَ اللهَ نفعَ المطرِ وَبَركتَهُ، ويحسرُ عن بَدنِهِ ليُصيبهُ منِ المطر، ولا يسبُّ ريحًا؛ بل يَسألُ اللهَ خيرَهَا وخيرَ ما فيها وخيرَ ما أُرسلتْ بهِ، ويعوذُ باللهِ من شَرِّهَا وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرسلتْ بهِ.
وفي الشتاء: يفزعُ أهلُ الخيرِ والعطاءِ، يتَلمَّسُونَ حاجاتِ إخوانِهمُ الفقراءِ، والذينَ لسانُ حالِهم يقولُ:
أتـدري كيـفَ قابلنـي الشتاءُ؟ *** وكيفَ تكونُ فيه القرفصاءُ؟
وكيـفَ البـردُ يفعلُ بالثنايـا *** إذا اصطكتْ وجاوبها الفضـاءُ؟
فـإن حلَّ الشـتاءُ فأدفئونـي *** فـإنّ الشـيخَ آفتـهُ الشـتـاءُ
أتدري كيفَ جارُك يا ابنَ أُمي *** يهــددهُ مـن الفقـرِ العنـاءُ؟
وكيـفَ يـداهُ ترتجفانِ بُؤساً *** وتصدِمُـه المذَّلـةُ والشـقـاءُ؟
يصبُّ الزمهريـرُ عليـه ثلجاً *** فتجْمُدُ فـي الشـرايينِ الدِّمـاءُ
معاذَ اللهِ أن ترضَـى بهـذا *** وطفـلُ الجيـلِ يصرعُهُ الشتاءُ
أتلقاني وَبِي عِـوزٌ وَضِـيقٌ *** ولا تَحـنُو فمَـا هذا الجفـاءُ؟
أخي بالله لا تجْـرَحْ شُعوري *** ألا يَكفيـكَ مَـا جـرحَ الشـتاءُ؟