اختر صفحة

تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ

إن التعجيل بالحج أسرع في إبراء الذمة، وأحوط في أداء العبادة، والأصل في الطاعة أن يعجل بها المسلم ولا يؤخرها؛ فقد أمر الله عباده بتعجيل الطاعة فقال: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[البقرة:148]، وقال سبحانه: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ)[آلعمران:133]، وقال عز وجل: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)[الحديد:21]، فالمسارعة إلى الخير والعبادة دليلٌ على حبها والشوق إليها، وإذا كانت الطاعة عبادة مفروضة فتعجيلها من باب أولى.

ولذا حث رسولنا صلى الله عليه وسلم على المبادرة بالحج والإسراع به؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ -يَعْنِي: الْفَرِيضَةَ- فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ”(رواه أحمد)، وبيَّن النبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ آخر بعضاً من العوارض التي قد تعرض للمسلم فتمنعه من أداء هذه الفريضة، فقد يكون المنع مؤقتاً، وقد يكون دائماً يستحيل معه آداء هذه الفريضة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ”(رواه أحمد).

إن الإنسان لا يدري ما يعرض له من صروف الزمان، وتغير الأحوال؛ فالأحوال تتبدل ولا يدوم للإنسان حالٌ واحد، فإن كان يستطيع الحج هذا العام فربما لا يستطيعه بعد ذلك أبداً، إن كان اليوم غنياً فغداً فقير، وإن كان صحيحاً فغداً مريض، وإن أدرك عامه هذا لعله لا يدرك العام الذي يليه، إن كان اليوم فوق التراب فغداً تحته! فعلامَ يؤخر الإنسان ويسوِّف والأمر ليس بيده؟! إن اعتذر بانشغالاته الكثيرة، فمتى يخلو امرؤٌ من عمل؟! والإنسان متى أراد سفراً من أسفار الدنيا فعل وفرَّغ نفسه من المشاغل! فمتى يفرِّغ نفسه لسفر الآخرة، وآداء ما أوجبه الله عليه؟!.

ولأجل ما يعرض للإنسان في هذه الدنيا من صوارف تشغله عن الطاعة، أمر النبي عليه الصلاة والسلام باغتنام الفرص التي يهبها الله لعبده، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: “اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ”(رواه الحاكم)، وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تُنْظَرُونَ إِلاَّ إِلَى فَقْرٍ مُنْسٍ، أَوْ غِنًى مُطْغٍ، أَوْ مَرَضٍ مُفْسِدٍ، أَوْ هَرَمٍ مُفَنِّدٍ، أَوْ مَوْتٍ مُجْهِزٍ، أَوِ الدَّجَّالِ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةِ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ”(رواه الترمذي).

فهذه الأمور التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام معوقات تحول بين العبد والطاعة، ولذا بينها النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً للعبد من التسويف وتأخير الواجبات والفرائض، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “والمراد من هذا أن هذه الأشياء كلها تعوق عن الأعمال؛ فبعضها يشغل عنه إما في خاصة الإنسان كفقره وغناه ومرضه وهرمه وموته، وبعضها عام كقيام الساعة وخروج الدجال وكذلك الفتن المزعجة كما جاء في حديث آخر: “بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم”، وبعض هذه الأمور العامة لا ينفع بعدها عمل، كما قال تعالى: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)[الأنعام: 158]”(جامع العلوم والحكم).

إنَّا لنفرحُ بالأيَّامِ نقطعُها *** وكُلُّ يومٍ مضى يُدني من الأجل

فاعمَلْ لِنَفسِكَ قبلَ الموتِ مُجتهداً *** فإنَّما الرِّبْحُ والخُسرانُ في العَمَلِ

إذا تقرر هذا فإن من استطاع الحج وتيسر له ولم يحج حتى مات دون عذرٍ شرعي؛ فإنه يموت عاصياً؛ لأنه قصَّر في فريضة من فرائض الإسلام وجبت في ذمته؛ فالبدارَ البدارَ إلى حج بيت الله الحرام.

متى قدر المسلم على الحج فليحج، ولا يؤخر ما أوجبه الله عليه دون عذرٍ شرعي؛ فلعل ما تيسر له في عام لا يتيسر له في عامٍ آخر؛ فالمعوقات في هذا الزمان كثيرة، والشواغل لا تنقطع، والمؤمن الحق لا تطمئن نفسه إلا إذا برئت ذمته مما كتب الله عليه.