تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا
جاءت هذه الكلمات القرآنية والتوجيهات الربانية في سياق الحديث عما حرم الله على الصائم من مباشرة النساء في أثناء الصيام، وفي أثناء الاعتكاف في المساجد، وغلَّظ -سبحانه- الوعيد بالنهي عن مقاربة ذلك، وشدد بالابتعاد عنه, فاقتضى ذلك المبالغة في النهي عن اقتراف تلك المنهيات، وعبَّر عن ذلك بقوله: {فَلَا تَقْرَبُوهَا}, قال -تعالى-: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[البقرة: 187].
والحد: هو الفاصل المانع من اختلاط شيء بشيء، وحدود الله هي محارمه, وفي الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير قال: سمعتُ رسولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – يقول: “ الحَلالُ بين، والحرامُ بين، وبيْنَهما مُشَبِّهاتٌ -وفي روايةٍ: أُمورٌ مُشْتَبِهَةٌ- لا يعْلمُها كثيرٌ من الناسِ؛ فمنِ اتَّقى المشبَّهاتِ استَبْرأَ لدِينهِ وعِرضهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ كَرَاعٍ يَرعى حوْلَ الحِمَى، يوشِكُ أنْ يواقعَه, أَلا وِإنَّ لكلِّ مَلك حِمىً، أَلاَ إِن حِمَى الله مَحارمُه”.
فالمحرمات ينبغي الابتعاد عنها وعدم الاقتراب منها أو من أسبابها التي تفضي إليها, “والنهي هنا عن القرب؛ لتكون هناك منطقة أمان؛ فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه, والإنسان لا يملك نفسه في كل وقت; فأحرى به ألا يعرض إرادته للامتحان بالقرب من المحظورات المشتهاة؛ اعتماداً على أنه يمنع نفسه حين يريد، ولأن المجال هنا مجال حدود للملاذ والشهوات كان الأمر: {فَلَا تَقْرَبُوهَا}“.
والتعبير القرآني تعبير دقيق غاية في البلاغة؛ إذ عبر في آيات الصيام بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}, وأما في آية أخرى فقد عبر بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}[البقرة:229], وحدود الله إما أن ترد بعد المناهي، وإما أن ترد بعد الأوامر؛ فإن وردت بعد الأوامر فإنه يقول: {لاَ تَعْتَدُوهَا} أي آخر غايتكم هنا؛ فلا تتجاوزوه بترك ما أمرتم به، ولكن إن جاءت بعد النواهي يقول: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا}؛ لأن الله يريد أن يمنع النفس من تأثير المحرمات على النفس، فتلح عليها أن تفعل؛ فإن كنت بعيداً عنها فالأفضل أن تظل بعيداً, وأما الأولى فهي أمور ليس فيها حظ للنفس والشهوة, والخلاصة أن قوله -سبحانه-: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا}، نهي عن مقاربة ما هو حرام وممنوع، وأن قوله -تعالى-: {فلا تعتدوها}، نهي عن التعدي لما هو حلال ومشروع.
وقد ذكر الله عدداً من المحرمات نهى المسلم أن يقربها لخطورتها؛ فمن ذلك: الفواحش, قال -تعالى-: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}[الأنعام: 151], ومنها: الزنا, قال -تعالى-: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}[الإسراء: 32] مال اليتيم, قال -تعالى-: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الأنعام: 152], وهذه كلها من كبائر الذنوب ينبغي الحذر والبعد منها, وأن يجعل المسلم بينه وبينها فاصلا؛ لأن النفس تميل إلى الشهوات؛ فالشهوات كالمغناطيس تجذب الإنسان وتسحبه, ومن المناسب أن يكون بينه وبينها حداً فاصلاً؛ فعنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ”(صححه الألباني)؛ فمن قارب شيئاً من تلك الحرمات؛ فقد أوقع نفسه في عقوبة الله -تعالى-.
فكل ما حرم الله عليك -أيها المسلم- يجب أن تبتعد عنه؛ لأنه سبب من أسباب دخول النار وحرمان الجنة, وإن كانت هذه المحرمات منهية في كل وقت؛ فهي أعظم حرمة في الأوقات والأمكنة الفاضلة.
وشهر رمضان عظمه الله -تعالى-، وضاعف فيه أجر الأعمال الصالحة؛ فارتكاب المعصية فيه مع وجود دواعي الطاعة, وضعف بواعث المعصية في النفس؛ دليل على استخفاف المرء بما حرمه الله -تعالى-, وفي هذا قلة تعظيم لله -تعالى-, قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “أول مراتب تعظيم الحق -عز وجل- تعظيم أمره ونهيه”, ويقول ابن القيم: “فإن عظمة الله -تعالى- وجلاله في قلب العبد وتعظيم حرماته يحول بينه وبين الذنوب, والمتجرؤون على معاصيه ما قدروه حق قدره”.
ولذلك يجب على المسلم أن يبتعد عن المحرمات في كل وقت, وفي رمضان بوجه أخص, وللأسف فإن ليالي رمضان أصبحت زمناً يتحلل فيه كثير من المسلمين من قيود الصيام, فتتخطفهم شياطين الإنس, بما تبثه قنوات الفسق والفجور من مسلسلات ومسابقات وبرامج يعدونها خصيصاً لرمضان, وهي لا تخلو من محرمات ونساء متبرجات ومناظر خليعات وغناء ورقص واختلاط, تُناقض الغاية التي فرض لأجلها الصوم, وهي التقوى, والتي يسعى المؤمن لتحقيقها من خلال صومه وطاعاته الكثيرة في رمضان.
إن تعظيم الحرمات دليل صدق الإيمان وتقوى القلب، وهو سبيل موصل للجنة؛ فعن جابر رضي الله عنه قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- النعمان بن قوقل فقال: يا رسول الله أرأيت إذا صليت المكتوبة, وحرمت الحرام, وأحللت الحلال. أأدخل الجنة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “نعم”, يقول الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-: “فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب؛ فالمعظم لها يُبرهن على تقواه وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله”.
ولذلك فإن الله -تعالى- قد ختم الآية السابقة التي حذر فيها من الاقتراب من حدود الله بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[البقرة:187]؛ فالتقوى هي الغاية التي شرع الله لأجلها الأحكام؛ فما أوجب الله على عباده من مأمورات, وما حرم عليهم من منهيات ثمرته التقوى.