اختر صفحة

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ

ارتبط شهر رمضان الكريم بالقرآن العظيم؛ فقد اختار الله -تعالى- هذا الشهر من بين سائر الشهور؛ لإنزال كتابه فيه، وكفى به شرفاً وفخراً! وهذه من خصائص رمضان الذي تميز بها عن غيره من الشهور، وقد نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملةً واحدة في رمضان، في ليلة وصفها الله بأنها مباركة؛ كما قال -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3]، تلك الليلة هي ليلة القدر {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1-3]، فأنزل الله أفضل الكلام بأفضل الليالي والأيام، بأفضل لغة ولسان على أفضل الأنام، وفي ذلك الإنزال “تفخيم لأمره وأمر مَن نزل عليه، وذلك بإعلان سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم”.

ثم أنزل القرآن على النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك منجَّما في أوقات مختلفة بحسب الحوادث والوقائع وحاجة الناس، وكان ابتداء نزوله أيضاً في شهر رمضان، حينما نزل جبريل -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو في غار جراء، فلقنه آياتٍ من سورة العلق.

ولأجل هذا الاتباط الوثيق بين شهر رمضان والقرآن الكريم – كان جبريل -عليه الصلاة والسلام- ينزل في هذا الشهر بالتحديد على النبي -صلى الله عليه وسلم- يدارسه القرآن كل عام؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان؛ فيدارسه القرآن فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة” [رواه البخاري ومسلم ]، قال الحافظ ابن رجب: “ودل الحديث أيضا على استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له. وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان” [لطائف المعارف].

والمشاهد أن كثيراً من المسلمين في زماننا هذا مقصرون مع القرآن، معرضين عن تلاوته والاعتناء به، وحالنا مع كتاب الله -تعالى- يدعو للأسف والحسرة؛ فلو سألت أكثر الناس عن ختمهم للقرآن متى كان؟! لكان الجواب: في رمضان الماضي! وهكذا تمر الأيام والشهور وكلام الرحمن مهجور، مع أنه قد تيسر لكل أحد المداومة على قراءته واستماعه في أي وقتٍ وحين؛ بما أنعم الله عليهم من أجهزةٍ حديثة لم تكن متوفرة عند أسلافنا، ومع ذلك فلا يقارن حالنا بحالهم، والله المستعان.

وهجر القرآن مصيبة وأي مصيبة أعظم من هجر كلام الرحمن، الذي تحيا به القلوب، واستمرار هجره حتى في رمضان من أشد المصائب وأعظمها، وإنما لا يدرك الكثير منا فداحة الأمر وخطورته؛ لشدة الغفلة، وتراكم الران على القلوب، وقد حكى الله شكوى نبيه -عليه الصلاة والسلام- من هجر كتابه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، قال بعض المفسرين: “إن الآية تنبيها للمؤمنين على ملازمة المصحف، وألا تكون الغبرة تعلوه في البيوت، ويشتغلون بغيره”.

لقد أدرك سلفنا الصالح الصلة والوثيقة بين شهر رمضان والقرآن الكريم، فكانوا يحثون قولاً وعملاً على التفرغ في رمضان للقرآن الكريم، وأن يكون للمسلم أكبر نصيب من التعبد لله به، وأن تنصرف همته إليه بالكلية، كان الزهري إذا دخل رمضان يقول: “إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام”، وكان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.

وهذا الإقبال الشديد والتفرغ التام لكتاب الله -تعالى- مع ما رزقهم الله من بركة الأوقات أثمر عجباً؛ فقد كان الأسود يختم القرآن في رمضان كل ليلتين، وكان قتادة إذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة، وأما الشافعي فقد كان يختم في رمضان ستين ختمة، وكان مجاهد يختم القرآن في رمضان فيما بين المغرب والعشاء، قال النووي: “وأما الذي يختم القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم؛ فمن المتقدمين عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير”.

ولعل أهل هذا الزمان يستبعدون مثل هذا الأمر، يقايسون زمانهم بزمان أولئك، ويمثلون أولئك الأبرار بأنفسهم، وما ترك أولئك السلف من آثار علمهم من موسوعاتٍ ضخمة، خطتها الأيدي في أزمنةٍ لا تتوفر فيها أدوات الكتابة، ولا آلات الطباعة! ينبئك عن بركة الأوقات، وأن ساعاتهم يمد الله فيها حتى يعمل الواحد منهم في ساعة ما لا يستطيع أن يعمله رجل منا في شهر!.

في الإكثار من قراءة كلام الله في رمضان كسب مزيد من الحسنات المضاعفة في أفضل الشهور، ويزداد الأجر حين يُوفق العبد لليلة القدر، الليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن؛ فيا لسعادة من خصها بقراءة كلام الرحمن، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ” [رواه الترمذي وصححه الألباني]، وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِي -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: “اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ” [رواه مسلم].

إن أكبر عائق في زماننا هذا أمام المسلم للتفرغ في رمضان لقراءة القرآن هو انشغاله بالتفاهات، وتضييع الأوقات في الملهيات؛ ما بين قنواتٍ وبرامج لهو ومسابقات، لا تخلو من منكرات، وبرامج تواصل ملئت بها الجوالات، قد سرقت بركة الأوقات، وأشغلت الناس عما ينفعهم في الدنيا وبعد الممات.