بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين :
عندما تستيقظ القلوب !
ليس هناك أسوأ من رقدة القلب ولا أضر منها على الإنسان؛ فضررها يلحق صاحبه في الدينا والآخرة، ورقدةُ القلب هي غفلته عما خُلِق له، وانشغاله بما لا يصح منه ، يُلهيه الأمل عن واجبه، ويصرفه الهوى عن مَهَمّته فيعيش كما قال الله تعالى :” {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] ولكل نومة مهما طالت يقظة، غير أن البعض يحتاج إلى ما يُوقظه إن استمر في نومه وسُباته وأحلامه ولهوه .
ومن لُطفِ اللهِ بعباده أنه يُرسل لهم ما يُوقظ قلوبهم ،ويُعيدُ شاردهم، ويُوقف منحرفهم، ويُصلح فاسِدهم بما يجعله من الآيات والعبر، وما يُحدثه من التحولات والتغيرات في النفس والأكوان، فتستيقظ بها قلوب وتحيى بها أرواح وتُعتق بها رقاب كما قال المولى عز وجل : {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] فيسير القلبُ في الأرض للتفكر بما فيها من آيات ،وما يقع فيها من أحداث ؛ فيكون السير سبباً للاستيقاظ، ومنها ما لا ينفع معه حدث ،ولا يرجعه حديث !
والقلوب إذا استيقظت من رقدتها وانتبهت من غفلتها فلا تدري أي منازل المحبة تبلغ ؟وأي درجات القرب ترقى؟ فلا تلوي على شيء من الدنيا، ولا تهاب شيئا من المخاوف، ولا يعجزها عائق أو يحول بينها وبين مرادها سراب كاذب .
عندما تستيقظ القلوب تعود لحقيقتها ،وتقطع الأمل بغير خالقها وتَعْبُر فترة الابتلاء – إن نزل بها – بيقين راسخ وتسليم كامل ؛فتزداد قوة إلى قوتها، ونورا على نورها ،فتخرج منها أقوى شكيمة، وأشد صلابة أمام الفتن والمغريات؛ فيزاد تعلقها بخالقها ،وإصرارها على مواصلة السير إلى ربها والدار الآخرة. تتذكر أيام اللهو فتبكي وتفرح؛ تبكي خوفا من بقاء أثرها وشؤمها ،وتفرح بتوقفها وتوفيقها لتوبتها وإقلاعها وعودتها إلى طريقها الصحيح ومشيها السليم .
عندما تستيقظ القلوب ترى الآخرة بين عينيها فلا تغرها الدينا وما فيها، فتسير في طريقها وكل يوم تقطع منزلة، والشوق يحدوها والأنس بالله يشدوها، تنتظر اللحظة التي لا بد منها راجية الوصول بسلامة وحسن ختام ؛لتسعد السعادة الأبدية ،وترضى الرضوان الذي ليس بعده رضوان.
عندما تستيقظ القلوب تهون في عينها المصائب العظام، ويذهب عنها التعلق بالحطام، تعرف أنها لله وفي الله وبالله وعلى الله .
أنها لله ولمحبته ولمعرفته خلقت؛ وفي الله تحب وتبغض، وفي مراضاته تسعى، وفي سبيله تهوى وتسعد؛ وبالله تستعين تستجير وبه تأنس وعلى الله تتوكل وتعتمد وتأمن .
عندما تستيقظ القلوب ترفل بنعيم اليقين، وتقوى بدثار الصبر وتتقوت بزاد التقوى ،وتحمي حماها بسياج التوبة النصوح .
فأيقِظوا القلوب مهما طالت رقدتها .
ومن أعظم ما يُوقظ القلب : القرآن تدبرًا وعملاً وتأملا وتلاوة وترتيلاً ، وذكر الموت سوطٌ يفزع من الرقدة فزعا ،والاعتبار بما صار وسار وتقلبت به الأحوال فلا دوام لعز ولا بقاء لنفس مهما كان حولها من الحصون والعيون، ولا يحجب القلب عن اليقظة مثل طول الأمل وحب العاجل ونسيان المصير فيطبع عليه حتى لا يدري ما حياة؟! ولا يعرف ما يضر وما ينفع ؟!
أيقِظوا القلوب واستغلوا إقبالها وتقبلها ،واربطوها بخالقها، وأزرعوا فيها حسن الظن بالله والرضى بما قدّره وأجراه ،وبثوا الأمل، وانشروا التفاؤل، وبيّنوا أن السعادة الكاملة والدائمة مع الله، وأن النّعيم الذي لا ينفد هو الجنّة، والجنّة مأوى أصحاب القلوب الخائفة من ربّها ،العاصية لهواها ،السلمية من غوائلها قال الله تعالى : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41] وقال سبحانه : {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]
اللهم أيقظ قلوبنا من غفلتها، ووفقنا لتوبة نصوح وعمل صالح مقبول .