اختر صفحة

فإِنَّه لي وأنا أجزي بهِ

إن رمضان شهر مبارك, والبركة هي زيادة الخير, ومن بركة رمضان مضاعفة ثواب الحسنات والأعمال الصالحة؛ فثواب الصوم لا يتقيد بعدد معين بل يعطى الصائم أجره بغير حساب؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: “قال الله -تعالى-: “كُلُّ عَمَل ابن آدم لَهُ إلاَّ الصومَ فإِنَّه لي وأنا أجزي بهِ” [متفق عليه], وَفِي رِوَايِةٍ عند مسلم: “كُلُّ عملِ ابنِ آدمَ لَهُ يُضَاعفُ الحَسَنَة بعَشرِ أمثالِها إلى سَبْعِمائِة ضِعْفٍ، قَالَ الله تعالى إِلاَّ الصَومَ فإِنه لِي وأَنَا أجْزي به يَدَعُ شهْوَتَه وطعامه من أجْلِي”.

فكل عمل صالح يعمله العبد له أجر معلوم تكتبه الملائكة إلا الصوم فأجره قد تولاه الله بنفسه, قال ابن حجر: “المراد بقوله: “وأنا أجزي به” أي: إني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته”, وقال المناوي: “إشارة إلى عظم الجزاء عليه وكثرة الثواب؛ لأن الكريم إذا أخبر بأنه يعطي العطاء بلا واسطة اقتضى سرعة العطاء وشرفه”, وفي حديث آخر قال النبي -عليه الصلاة والسلام-لأبي أمامة -رضي الله عنه-: “عليك بالصوم فإنه لا مثل له” [رواه أحمد وغيره],

لما كان الصوم عبادة سر وخفاء جعل الله تقدير أجرها والمجازاة عليها لنفسه, ولم يكلها لملائكته؛ فأجر الصوم يتضاعف إلى ما شاء الله ولا يقدر قدره إلا هو -سبحانه-, قال أبو عبيد: “إنّما خصّ الله -تبارك وتعالى- الصّوم بأنّه له وهو يجزي به، وإن كانت أعمال البرّ كلّها له وهو يجزي بها؛ لأنّ الصّوم ليس يظهر من ابن آدم بلسان ولا فعل فتكتبه الحفظة، إنّما هو نيّة في القلب وإمساك عن حركة المطعم والمشرب”(لسان العرب:8-309).

إن الله -تعالى- أكرَمُ الأكرمين لا منتهى لكرمه ولا حد لجوده، والعطيَّةُ بقدر مُعْطيها, فيكُونُ أجرُ الصائمِ عظيماً كثيراً بِلاَ حساب, سئل سفيان بن عيينة عن قوله: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي” فقال: “إِذَا كانَ يومُ القِيَامَةِ يُحاسِبُ الله عبدَهُ ويؤدي ما عَلَيْه مِن المظالمِ مِن سائِر عمله حَتَّى إِذَا لم يبقَ إلاَّ الصومُ يتحمَلُ اللهُ عنه ما بقي من المظالِم ويُدخله الجنَّةَ بالصوم”.

ومما يضاعف أجر الصوم أنه عبادة مبناها على الصبر؛ وأنواع الصبر الثلاثة موجودة في الصوم: صبْرٌ على طاعةِ الله، وصبرٌ عن مَحارِم الله، وصَبْرٌ على أقْدَارِ الله المؤلمة مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ وضعفِ البَدَنِ؛ فَقَدِ اجْتمعتْ في الصوم أنْواعُ الصبر الثلاثةُ، وَتحقَّقَ أن يكون الصائمُ من الصابِرِين, وقَدْ قَالَ الله -تَعالى-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].

فالصوم يربي النفس على الصبر وتحمل المشاق, وقوة الإرادة والعزيمة, والصبر لا يتجلى في شيء من العبادات كما يتجلى في الصوم؛ فإن المقصود من الصوم إنما هو حبس النفس عن الشهوات, وفطامها عن المألوفات, وهذا هو الصبر الذي وعد الله أصحابه بمضاعفة أجرهم بغير حساب.

وإضافة الله الصوم له -سبحانه- من بين سائرِ العبادات، يدل على شرف الصيام ومكانته عنده -سبحانه-, ومحبَّتهِ له، وذلك لظهور الإِخلاصِ له فيه؛ لأنه سِرُّ بَيْن العبدِ وربِّه لا يطَّلعُ عليه إلاّ الله -تعالى-, وقد قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: “من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه” [أخرجه البخاري ومسلم]، ومعنى إيماناً: أي إيماناً بوجوبه, ومعنى احتساباً: استشعاراً بالأجر عند ربِّه؛ فقد يُرائي الإنسان بكثيرٍ من الأعمال الصالحة إلا الصوم فإنها عبادة بعيدة عن المراءاة وحظوظ النفس وطلب الشهرة وثناء الناس, ويصعب أن يداخلها شيء من ذلك؛ فالصيام عنوان الإخلاص, ويصل به العبد المؤمن إلى مرتبة الإحسان أعلى مراتب الدين.

إن الصوم عبادة عظيمة تنمي وتغرس مراقبة الله -تعالى- في نفس المؤمن؛ فالصائم يكون في الموضِعِ الخالي من الناس مُتمكِّناً منْ تناوُلِ ما يشاء من الطعام والشراب فلا يتناولُهُ؛ لأنه يعلم أن له ربّاً يطَّلع عليه في خلوتِه، وقد حرَّم عَلَيْه ذلك؛ فيترُكُه لله خوفاً من عقابه، ورغبةً في ثوابه؛ فمن أجْلِ ذلك شكَر اللهُ لعبده هذا الإِخلاصَ، واختصَّ صيامَه لنفْسِه من بين سَائِرِ أعمالِهِ قال ابن القيم: “فيدع الصَّائِم أحب الْأَشْيَاء إِلَيْهِ وَأَعْظَمهَا لصوقا بِنَفسِهِ من الطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع من أجل ربه وَهَذَا معنى كَون الصَّوْم لَهُ -تبَارك وَتَعَالَى-“, قال القرطبي: “لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطَّلع عليه بمجرد فعله إلا الله، فأضافه الله إلى نفسه ولهذا قال في هذا الحديث: “يدع شهوته من أجلي”, وقال ابن الجوزي: “جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلّ أن يسلم ما يظهر من شوب، بخلاف الصوم”.

وفي هذا دليل على أن شرف الأعمال وعظم الجزاء ومضاعفة الثواب فيها موقوف على التوحيد والإخلاص، وأن أصدق الناس إخلاصا وعبودية لله -تعالى- في صلاته وزكاته وحجه وعمرته وعبادته وجميع شأنه أرفع الناس عند الله قدرا، وأعظمهم عنده أجرا, قال ابن رجب: “الصيام لا يعلم منتهى مضاعفته إلا الله -عز وجل-، وكلما قوي الإخلاص فيه وإخفاؤه وتنزيهه من المحرمات والمكروهات كثرت مضاعفته”.