اختر صفحة

فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ

ما لنا ندعو كثيراً فلا يستجيب الله -تعالى- دعاءنا؟! سؤال قد يرد على خاطرك أو تسمعه من غيرك! ندعو وندعو ونكثر من الدعاء, ويدعو خطباء الجمعة ويؤمن المسلمون, ولكن لا نجد أثراً لإجابة الله -تعالى- لكثيرٍ من دعائنا!.

إن المتدبر لهذه الآية {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: 186], يجد جواباً لهذا السؤال؛ فإجابة الله لدعاء عبده منوطةً باستجابة العبد أولاً لربه, الاستجابة لله -تعالى- بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية، والإيمان به، الموجب لاستجابة الله لعبده؛ فلهذا قال: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي}, واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له هم ويرشدون, {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}[آل عمران: 195].

وقد أمر الله عباده بالاستجابة إليه فقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال: 24]؛ “فتضمنت هذه الآية أمورًا أحدها أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له”(ابن القيم)؛ فعلى قدر الاستجابة تكون الحياة الطيبة، وكلما زاد العبد في الاستجابة لله ورسوله؛ كلما زاده الله هداية وتوفيقاً ورشداً.

والاستجابة لله -تعالى- ينبغي أن تكون شاملة بخضوع القلب واستسلامه، وانقياد الجوارح لطاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- طاعة مطلقة, مقدمة على طاعة كل من سواهما, وكل نداء فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا…} يحتاج إجابة من المؤمن؛ فإما أمرٌ يجب فعله, أو نهي يجب تركه, وهو بين أن يقول بقول أهل الإيمان: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}[البقرة: 285], أو بقول أهل الكفر والنفاق: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}[البقرة: 93].

وينبغي السرعة في الاستِجابة لله -تعالى-, قال الله -عز وجل-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}[الأحزاب: 36]، وقال سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء: 65].

وكلما كان المؤمن أصدق إيماناً وانقياداً؛ كان أسرع استجابة لله ورسوله؛ بلا تردد ولا تلكؤ أو تباطؤ, قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[النور: 51], ولا يكون التكاسل والتباطؤ والتردد في الاستجابة لله ورسوله إلا لضعف في الإيمان أو مرض في القلوب؛ إما مرض شهوةٍ أو مرض نفاق, وقد قال الله عن المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}[النساء: 61], وقال في وصفهم: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}[التوبة: 54].

وقد ضرب لنا الجيل الأول من المؤمنين أروع الأمثلة في سرعة الاستجابة لله ورسوله؛ فالخمر التي ألفوها واعتادوا شربها في مجالسهم ينزل الوحي بتحريمها؛ فكيف يكون موقفهم؟ يقول أنسٌ -رضي الله عنه-: “بينما أنا أُديرُ الكأسَ على أبي طلحَة وفلان، فسمعتُ مُنادِيَ يُنادِي: ألا إن الخمرَ قد حُرِّمَت”, قال: “فما دخلَ علينا ولا خرجَ منا خارِجٌ حتى أهرَقْنا الشرابَ، وكسَرْنا القِلال، وتوضَّأَ بعضُنا واغتسلَ بعضُنا، وأصَبْنا من طِيبِ أمِّ سُلَيم، ثم خرَجنا إلى المسجِد فإذا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90]”, “فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبر الرجل”([متفق عليه), ولما سمعوا آخر آية الخمر: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}[المائدة: 91] قالوا جميعًا: “انتهينا يا رب، انتهينا يا رب”(النسائي).

وبينما كان بعض الصحابة يصلون يأتي الأمر بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة فتكون الاستجابة على الفور!، قال ابن عمر -رضي الله عنه-: “بينما الناس بقباء في صلاة الصبح جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أنزل عليه الليلة، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة”(النسائي).

 والاستجابة لا تقتصر على الرجال وحدهم فلنساء الصحابة نصيب كبير من ذلك, تقول عائشةُ -رضي الله عنها-: “ما رأيتُ أفضلَ من نساءِ الأنصار، أشدَّ تصديقًا لكتاب الله، ولقد أُنزِلَت: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}[النور:31]، فانقلَبَ رجالُهنَّ إليهنَّ يتلُون ما أنزلَ الله إليهنَّ فيها، ويتلُو الرجلُ على امرأتِه وابنتِه وأختِه وعلى كل ذي قرابَته؛ فما منهنَّ امرأةٌ إلا قامَت إلى مِرطِها المُرحَّل، فاعتجَرَت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزلَ الله في كتابِه، فأصبَحن وراءَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُعتجِراتٍ كأنَّ على رُؤوسهنَّ الغِربان”.

وأما مواقفهم الفردية في الاستجابة لله ورسوله وسرعة انقيادهم فأكثر من أن تحصى, “لما استوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة قال: “اجلسوا”، فسمع ذلك ابن مسعود فجلس على باب المسجد!”(أبو داود), ورأى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا من ذهبٍ في يدِ رجُلٍ، فنزعَه وطرحَه وقال: “يعمِدُ أحدُكم إلى جمرةٍ من نارٍ فيجعلُها في يدِه”, فقيل للرجُّلِ بعدما ذهبَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: “خُذ خاتمكَ وانتفِع به”. فقال: “لا -والله،-؛ لا آخُذُه أبدًا وقد طرحَه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-“.

من استجابَ لله نالَ الحُسنى، ومن أعرضَ ولم يستجِب فمأواه النار، قال الله -تعالى-: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}[الرعد: 18].