فُتِّحَتْ أَبْوَابٌ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابٌ
إن من فضل الله -تعالى- على عباده المؤمنين في رمضان أن يهيئ لهم كل سبيل للطاعة فيفتحه ويسهله لهم, ويغلق عليهم كل باب للمعصية؛ فرمضان شهر للطاعات وزيادة الخيرات, ومن تهيئة النفوس للطاعة واجتناب المعاصي أن تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ..” الحديث.
وفتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار هو من رحمة الله -عز وجل- وفضله على المؤمنين؛ إذ لما كثرت طاعة المسلمين وإقبالهم على الله -تعالى- في هذا الشهر؛ أكرمهم الله -عز وجل- بفتح أبواب الجنة، و(فُتِّحَتْ) صيغة مبالغة أي: كل باب من أبواب الجنة يفتح على مصراعيه جميعاً، وهذا دلالة على عظيم رحمة الله -تعالى- وواسع مغفرته, وما خص به أهل طاعته من العفو والمغفرة في رمضان, حتى أن له -سبحانه- عتقاء من النار في كل ليلة؛ فما أعظمه من كرم وفضل!.
أبواب الجنة تفتح عن آخرها كأنها في حال استقبال للصائمين والقائمين والذاكرين والتالين والمتهجدين… الجنة في شوقٍ لأهل الطاعة تنتظرهم؛ إكراماً من المولى لهم, {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:68-72].
ومن مزيد فضله -سبحانه- أن يغلق أبواب النيران في هذا الشهر العظيم؛ يعني أنها توصد تمام الإيصاد، ويحكم إغلاقها؛ فلا يفتح منها باب؛ لأن شهر رمضان شهر الرحمة وكثرة العفو والمغفرة من الرحمن الرحيم -سبحانه-, ولذلك تنزه نفوس الصائمين من رجس الفواحش، وتتخلص من بواعث المعاصي بقمع الشهوات, وتصفيد الشياطين.
يفتح الله لعباده المؤمنين من الطاعات هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموماً؛ كالصيام والقيام والصدقة وصلة الأرحام والمحافظة على الصلوات في المساجد وفعل الخيرات، ما يكون به دخولهم الجنة، ويصرف هممهم عن المعاصي ما يغلق عليهم أسباب دخول النار؛ فالطريق إلى الجنة في شهر رمضان سهل؛ لأن الأعمال فيه مضاعفة الأجر، والعفو والرحمة فيه تظل العباد؛ فالطاعات طريق إلى الجنان, والمعاصي طريق إلى النيران, وقد قال الله -تعالى- عن الفريقين: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 15-19].
ومن أعظم الأعمال الصالحة التي تدخل الجنة واختص بها رمضان: عبادة الصيام؛ فعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله! مُرْني بأمر آخذه عنك، ينفعني الله به، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “عليك بالصوم، فإنه لا مِثلَ له”، وفي رواية: “لا عِدلَ له” [رواه أحمد والنسائي]؛ أي: لا نظير له في العبادات، ولا مثيل له في الطاعات.
وعن سَهْلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ” [متفق عليه], وهذا دليل على عظم أجر الصوم؛ حيث خصه الله -تعالى- من بين كثير من العبادات بأن جعل له بابا لا يدخل منه للجنة إلا الذين صار الصوم صفة ملازمة لهم, ولا عجب في ذلك؛ فإن الصيام عبادة اختص الله ثوابها وكتابة حسناتها لنفسه.
تأملوا فضل صيام النافلة لتعرفوا عظم أجر صوم الفريضة, قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “من صام يوماً في سبيل الله؛ بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً” [متفق عليه]؛ فما بالك بمن يصوم شهرا كاملا في سبيل الله, ويقوم لياليه, ويكثر فيه من نوافل الطاعات, معرضاً عن المعاصي والمحرمات!.
إن الحكمة من فتح وإغلاق الأبواب- مع أنه لا دخول ولا خروج-؛ لإعلام الملائكة بدخول شهر رمضان، وتعظيم حرمته, وترغيباً للمؤمنين لزيادة الطاعة شوقاً إلى الجنة, قال الطيبي: “فائدة فتح أبواب السماء توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وأنه من الله بمنزلة عظيمة، وفيه إذا علم المكلف ذلك بإخبار الصادق ما يزيد في نشاطه، ويتلقاه بأريحية”.
هذا رمضان أقبل للعاملين ميداناً فسيحاً لكسب الحسنات ومضاعفة الثواب ورفع الدرجات, وطريق موصلة إلى الجنات؛ فمن اغتنم شهره وبذل فيه غاية جهده؛ طاب سعيه, ونال أمله بالفوز برضا مولاه وربه, ومن تكاسل وفتر, وما اجتهد وبذل, ومر عليه رمضان كبقية الشهور, وعن الطاعة غفل؛ ندم يوم لا ينفع ندم, وفي الحديث القدسي يقول رب العزة -جل جلاله-: “يَا عِبَادِي! إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ” [رواه مسلم].