لحظة الغضب
أما بعد:
قد تراه قويّا، وتبصره فتيّا،
قد تعجبك صلابته، وتأسرك رجولته،
قد ترى جسدًا لا يُهزم، وبدناً لا يُصرع، وقوةً لا تغلب.
قوةٌ في الشخصية، وصلابةٌ في المراس، واكتمالٌ في الرجولة، ولكنها …
تتحطمُ عند هبوب رياحه، وتغرقُ في بحار أمواجه، وتحترقُ عند اشتعال نيارنه.
ففي لحظةٍ ينطفئُ سراج العقل، وتشتعلُ نار القلب، ويستشري داءُ التوتر في الأعصاب، وتعلو أصواتُ الشتم والسباب.
في لحظةٍ يصبح قويُّ الشكيمة، مضّاءُ العزيمة؛ أعمى البصر، معطّلَ التفكير، أسيرًا لشيطانه ذليلاً لهواه، ضعيفًا لشهوته حقيرًا لنزوته،
في لحظةٍ تعصفُ بالنفس حتى ترى اللذّةَ في الأذى، والمتعةَ في الانتقام، فتصبحَ من جملةِ البهائمِ والهوام.
عباد الله:
ألا تعرفون جماعَ الشرور ومصدرَ الهلاك، وعنوانَ الدمار؟
ألا تعرفون آثارَه الأليمةَ ونتائجَه العظيمةَ وعواقبَه الوخيمة؟
ألم تسمعوا بأُسرٍ دُمرت، وبيوتٍ مُزقت، وأرحامٍ قُطعت، ونساءٍ رُملت، ودماءٍ أُريقت، وكلُّها بسببِ تلكَ اللحظة؟
إنها فِعلُ الأحمقِ وتصرفُ الأهوج، إنها الداءُ المزعجُ، والخطرُ المحدقُ.
إنها لحظةُ اشتعالِ النارِ في الفؤاد، والشررِ في العينِ والحمرةِ في الوجهِ والتوترِ في الأعصاب وانتفاخِ الأوداج..
وستعرفونها من خلال هذا المشهدِ المتكررِ في كل زمان:
عن وائلِ بن حجرٍ رضي الله عنه قال: إني لقاعدٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم إذْ جاء رجلٌ يقود آخرَ بنَسْعَةٍ – أي: حبل -، فقال: يا رسولَ الله، هذا قَتلَ أخي، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أقتلتهُ؟» قال: نعم قتلتُهُ، قال: «كيفَ قتلتَهُ؟» قال: كنتُ أنا وهو نَخْتَبِطُ من شجرةٍ -أي: نضربُ أغصانَها لتسقطَ أوراقُها عَلفَا للدواب -، فسبّني، فأغضبني، فضربتُه بالفأسِ على قَرْنِه، فقتلتُهُ، …. الحديث بطوله. رواه مسلم (1680).
الآن بانتْ لكم تلك اللحظةُ الهوجاء والفعلةُ النكراء،
إنها لحظةُ الغضبِ التي تَفحَصُ قوّةَ القويِّ وفُتوّةَ الفَتِيّ، وصَلابَةَ الصّلْبِ، وعَقلَ العاقل.
لحظةُ الغضبِ التي لا ينجو منها إلا الشديد … شديدُ الدينِ، سليمُ الطبعِ، لا شديدَ الصّرْعِ والقَمْع.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الشديدُ بالصُرَعَةِ، إنما الشديدُ الذي يملك نفسه عند الغضب» صحيح البخاري (8/ 28)
عباد الله:
الغضبُ خُلقٌ لا يُمكن أن تنفكَّ عنه النفوس، ولكنه كغيره ابتلاءٌ وامتحانٌ، قد أبانَ الله لنا خطَرَه، وعظّمَ لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أمْرَهُ وأثَرهُ، وأرشدنا لعلاجِه ومقاومتِه، وأجزلَ اللهُ بعد ذلك المثوبةَ لمن كَظَمَه.
فقال تعالى في صفات المؤمنين {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } وقال {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}
وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن كظم غيظًا وهو يقدِر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور شاء»([1]) .
وبعد هذا يزولُ العجبُ من قول النبي صلى الله عليه وسلم لذاك الرجلِ الذي يُقبل وكلُّه أذنٌ صاغية، وفؤادٌ مفتوح، ونفسٌ متشوقة… ليقولَ في تطلُّعٍ وترقُّبٍ: يا رسول الله؛ أوصني – وفي رواية قل لي قولاً وأَقْلِلْ عليّ لعلِّي أعقله – فقال: (لا تغضب).
ولعل الرجلَ ظنَّ أن في الوصيةِ بقيةٌ فكرر الطلب؛ فكان الجوابُ نفسُه : (لا تغضب).
لقد أوصاه بجماعِ الخيرِ: إن تحرَّزَ من الغضب، ونهاه عن جماعِ الشر: إن أسلمَ نفسَه للغضب.
وَلَم أَرَ في الأَعداءِ حينَ خَبَرتُهُم *** عَدُوّاً لِعَقلِ المَرءِ أَعدى مِنَ الغَضَب
وتأملوا هذا الأثر عن شيخ المفسرين:
ذكر البخاري في تفسير قول الله -عز وجل-: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ) قولَ مجاهد:
“إنه قَوْلُ الْإِنْسَانِ لِوَلَدِهِ وَمَالِهِ إِذَا غَضِبَ: اللَّهُمَّ لَا تُبَارِكْ فِيهِ وَالْعَنْهُ.
(لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ): لَأُهْلِكُ مَنْ دُعِيَ عَلَيْهِ وَلَأَمَاتَهُ”.
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فإنّ من الغضبِ غضبًا محموداً، كما قال الله تعالى: (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ )
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا قطُّ بيده، ولا امرأةً، ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيلَ منه شيءٌ قطُّ فينتقمَ من صاحبه إلا أن يُنتهكَ شيءٌ من محارم الله؛ فينتقم َلله عز وجل” (رواه مسلم 2328)
نعم… إنه الغضبُ حين تُنتهك المحارم، وتُعلن المآثم ويُجاهر بالجرائم.
إنه الغضبُ في زمنِ نشرِ الرذيلة، ومحاربةِ الفضيلة، وإشاعةِ الفاحشة، وبثِّ الشبهات، وتزيينِ المنكر، وإنكارِ المعروف، والاستهزاء بالدين وشعائره.
إنه الغضبُ المحمودُ لله؛ الذي يدلُ على قوة الإيمان،
إنه الغضبُ الذي يُثمرُ صيانةَ الأديان، وحفظَ الأوطان، وسلامةَ الأبدان.
اللهم إنا نسألك العفو العافية، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك من كل خير خزائنه بيدك إنك سميع الدعاء..
____________________________________
([1]) (رواه أحمد: [3/440]، وأبو داود: [4777]، والترمذي: [2493]، وقال: “هذا حديث حسن غريب”).