لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ
روى الحاكم وابن بن أبي شيبة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قَالَ: رَبِّ قَدْ فَرَغْتُ، فَقَالَ: “أَذِّنِ فِي النَّاسَ بِالْحَجِّ” قَالَ: رَبِّ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ قَالَ: “أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ” قَالَ: رَبِّ كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: ” قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ، حَجُّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ” فَسَمِعَهُ مَنْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ يُلَبُّونَ؟.
وإجابةً لنداء إبراهيم عليه السلام للناس بالحج لما أمره ربه بقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحج:27]، كانت التلبية شعار هذه الأمة في تأديتها لمناسك الحج، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُهِلُّ مُلَبِّدًا يَقُولُ: “لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ”(مُتَّفَقٌ عَلَيْه).
قال مجاهد: “من حجّ اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ”، قال البيهقي: “إِذَا قَالَ الْمُلَبِّي: لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ إِنَّمَا هُوَ جَوَابٌ مِنَ الْمُلَبِّي بِقَوْلِهِ حِينَ نَادَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحَجِّ عَنْ أَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)[الحج: 27]، وَيُرْوَى أَنَّ مَنْ حَجَّ فَهُوَ مِمَّنْ أَجَابَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وَبُطُونِ الْأُمَّهَاتِ فَأَجَابُوهُ: بِلَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، فَكَانَتْ شِعَارَ تِلْكَ الْإِجَابَةِ مِنْ كُلِّ حَاجٍّ وَمُعْتَمِرٍ فَصَارَتْ جَوَابًا”(شعب الإيمان).
“لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ” معناه إجابة لدعائك يا ربنا مرة بعد مرة، وليس المراد به حقيقة التثنية بل المراد التكرير والتكثير والتوكيد، وأصلها من ألَبّ بالمكان ولبَّ، إذا لزمه وأقام فيه، فكأن الملبي يجيب دعوة الله ويلزم ذلك لا يحيد عنها، ويقتضي أيضا سرعة الإجابة مع الدوام عليها.
فالملبي مجيبٌ لدعوة الله -تعالى- مسرعا إليها، مقيما على طاعته، ممتثلا لأوامره، مجتنبا لنواهيه، فإذا قال هذا بلسانه فالواجب أن يتبع ذلك بعمله؛ ليكون مستجيبا لدعوة الله قولا وفعلا، ومناسك الحج فيها قرن القول بالعمل، منذ أن يلبي المؤمن أمر ربه له بالحج ويحرم إلى أن ينتهي من حجه، كل خطوة يخطوها وعملٌ يعمله من أعمال الحج فيه تلبية لأمر الله وانقياد لشرعه وإقامة على طاعته.
وفي التلبية إعلان للتوحيد وإظهار له، “لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ” تعنى أن العبادة لك ياربنا وحدك، هي طاعة خالصة لك ليس لأحد فيها نصيب، فنحن نعبدك وحدك ولا نعبد أحدا سواك، فبها يظهر المؤمن توحيده وإخلاصه لربه وبراءته من الشرك وأهله؛ فلا معبود يستحق العبادة إلا الله وحده.
وفي التلبية اعتراف بالمنعم سبحانه؛ فالنعم كلها منه لأنه -تعالى- الملك الغني وغيره فقير إليه، “إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ” فكل نعمةٍ صغرت أو عظمت هي من الله -تعالى- وحده، فهو سبحانه الذي يستحق الحمد والشكر والثناء عليها، ومن الحمد للمنعم أن لا يعبد غيره، فصرف العبادة لله وحده من شكر الله على نعمه.
“لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ” يتذكر بها الحاج الأنبياء والرسل -عليهم السلام-، الذين لبُّوا نداء الله من قبل، فهو سائرٌ معهم في زمرة الملبين المستجيبين لله، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِوَادِي الْأَزْرَقِ، فَقَالَ: “أَيُّ وَادٍ هَذَا؟”، فَقَالُوا: وَادِي الْأَزْرَقِ، قَالَ: “كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّلْبِيَةِ”، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ: “أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟”، قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى، قَالَ: “كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ -أي: مكتنزة لحمًا- عَلَيْهَا صُوفٌ خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ -أي: من الليف- وَهُوَ يُلَبِّي”(رواه مسلم).
أعمال الحج التي يؤديها المسلم دروسٌ في الاستسلام والانقياد لله رب العالمين، والاستجابة والخضوع له، من لدن أبينا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام وهما يبنيان البيت الحرام ويرفعان قواعده امتثالاً لأمر الله، إلى قصة هاجر التي تركها إبراهيم بأمرٍ من الله -تعالى- في أرض مقفرة لا أنيس فيها ولا جليس، ولا ماء ولا طعام فتقول له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فتعلن حينذاك استسلامها وخضوعها لأمر ربها قائلة: إذاً لا يضيعنا الله!.
“لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ” حين يرددها الحاج وهو ينتقل بين المشاعر والبقاع المقدسة، يتذكر بها إبراهيم عليه السلام وهو يستجيب لربه يوم رأى في منامه أنه يذبح ابنه، فما تردد ولا تلكأ بل مضى ملبياً مستجيباً لأمر الله -تعالى- له، فيُمرّ السكين على رقبته والابن تحته مستسلماً، قد ضرب مثالاً عظيماً في تلبية أمر الله والاستجابة له، (قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصافات:102].
تأتي أعمال الحج ومناسكه لتعمق هذا المفهوم وترسخه في قلب المؤمن، كلٌ هناك مستسلمٌ منقادٌ لأمر الله مستجيبٌ له، يطوف الحاج حول الكعبة، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقبّل الحجر الأسود وهو حجر لا يضر ولا ينفع، ويقف في عرفة لو تأخر عنها أو تقدم بطل حجه، أعمالٌ تعبديةٌ يؤديها لا يعقل معناها، تربِّيه على الاستسلام والاستجابة، والخضوع لأمر الله تعالى، رافعاً صوته وهو يؤديها ملبياً: “لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ”، فيكفي أن الله أمره ليستجيب، ولو لم يدرك الحكمة من هذا الفعل ويعقله، فالله أمر ولا يسعه إلا الاستجابة والانقياد والتلبية.
مشهد الحجيج وهم يرفعون أصواتهم بالتلبية متنقلين بين المناسك خاضعين لأمر الله -تعالى- مشهدٌ عظيم، أعدادٌ كبيرة بلباس واحد وصوت واحد، يعلنون فيه الاستجابة التامة لنداء الله لهم بحج بيته الحرام، ممتثلين أمر نبيه عليه الصلاة والسلام في جميع أعمال حجهم، القائل في حجة الوداع: “خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا”(رواه البيهقي بهذا اللفظ وهو في مسلم وغيره).
إن للتلبية في الحج أسرارًا عجيبة، ومعاني عظيمة، فطوبى لمن لبى نداء الله له بالحج، ورفع صوته بالتلبية؛ معلناً استسلامه وخضوعه وانقياده لربه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ قَطُّ إِلَّا بُشِّرَ، وَلَا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ قَطُّ إِلَّا بُشِّرَ” قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: “نَعَمْ”(السلسلة الصحيحة)، وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: “مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلا لَبَّى عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ شَجَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الأَرْضُ مِنْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا”(رواه الترمذي وصححه الألباني).