لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ
لقد فرض الله على عبادِه حجَّ بيتِه الحرام في العمر مرَّة واحدة لِمن كان مستطيعًا، ولم يَفرضْه عليهم لحاجته إلى ذلك؛ فهو سبحانه الغنِيُّ الحميد: (غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 97]، لا تنفعه طاعةُ الطَّائعين، ولا تضرُّه معصيةُ العاصين، فالطاعة لصاحبها والمعصية عليه، (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ)[الروم: 44].
وإنَّما فرض الله سبحانه الحجَّ على عباده لما فيه من المنافع العظيمة والثمرات الجليلة التي تعود عليهم في الدُّنيا والآخرة، قال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)[الحج: 28]، قال ابن عبَّاس -رضي الله عنهما-: “أمَّا منافع الآخرة؛ فرِضوان الله تعالى، وأمَّا منافع الدُّنيا؛ فما يُصيبون من منافع البدَن، والذَّبائح والتجارات”، هذا على سبيل الإجمال، وأمَّا على سبيل التفصيل فمَنافع الحجِّ وثمراته عديدة؛ منها: الإيمانيَّة، والتربوية، والاجتماعية، والاقتِصادية… ومن ذلك:
أوَّلاً: تحقيق التوحيد؛ ففي القرآن سورة سُمِّيت بـ”سورة الحج”، جلُّها تتحدَّث عن التوحيد، والتحذير من الشِّرك بكافَّة صُوَرِه وأشكاله، وما بني هذا البيت العتيق إلا من أجل تحقيق التوحيد في النفوس وتخليصها من الشرك، قال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا)[الحج: 26].
ثانيًا: تجريد النية لله، وإخلاص العمل له وحده: فقد فرضَ الحجَّ على عباده وأرشدهم إلى تجريد النِّية، وإخلاص العمل له وحده، فقال سبحانه: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)[البقرة:196].
ثالثًا: المتابعة لهدي النبي عليه الصلاة والسلام؛ فقد أكد النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حجته على ذلك، فقال: “لتأخذوا مناسِكَكم؛ فإنِّي لا أدري لعلِّي لا أحجُّ بعد حجتي هذه”(رواه مسلم).
رابعًا: ترسيخ عقيدة الولاء والبَراء؛ فقَد وافق -عليه الصلاة والسلام- أهل التَّوحيد والإيمان، فسار -عليه الصَّلاة والسَّلام- في حجَّته على سنَّة إمام الموحِّدين خليلِ الرَّحمن إبراهيم -عليه السَّلام-، وخالف أهل الشِّرك والأوثان؛ حتَّى إنَّه وضع لأصحابه –ولأمَّتِه قاعدةً عظمية في حجته، فقال: “هدْيُنا مخالِف هَدْيهم”(رواه البيهقيُّ واللَّفظ له، والحاكم)، وخالَفَ أهل الشِّرك والأوثان في التَّلبية، وإعمار عائشة في ذي الحجَّة، والإفاضة من عرفات بعد مغيب الشَّمس، ومن مزدَلِفة قبل طُلوعها.
خامسًا: تعظيم شعائر الله، واجتناب حرماته، فذلك مما يُربِّيه الحجُّ في قلب العبد؛ فقد قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32]، وقال: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)[الحج: 30].
سادسًا: تحقيق التقوى؛ فما تزوَّد حاجٌّ ولا غيره أفضل من زاد التَّقوى، ولا دُعِي للحاجِّ عند توديعه بأفضلَ مِن التقوى، ودَّع النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- غلامًا للحجِّ، فقال له: “زوَّدَك الله التقوى”(رواه الترمذي وحسَّنه الألبانيُّ).
سابعًا: مراقبة الله؛ فالعبد حينما يقوم بأداء مناسك الحجِّ يكون في غايةٍ من المُراقبة لله، فهو يراقب الله في إحرامه من الميقات؛ فلا يتجاوَز الميقات بدون إحرام، ويراقبه في الامتناع عن ارتكاب ما يخلُّ به من المحظورات، ويراقب الله في سعْيِه وطوافه؛ فلا يزيد فيهما ولا ينقص، ويراقب الله في الوقوف في عرفات؛ فيقف في الوقت المحدَّد للوقوف، ويحرص على أن يقف في داخل حدودها، لا في خارجها؛ لأنَّه يَعلم أنَّ الوقوف بعرفات رُكْن الحجِّ الأعظم.
ثامنًا: الزهد في الدنيا؛ فسفر العبد من بيته، واصطحابُه لما يكفيه من المتاع، يدعوه إلى الزُّهد في الدنيا، وعدم التَّكاثر فيها؛ لأنه يعلم أنَّ هذه الدنيا عمَّا قريبٍ زائلةٌ، وأنه فيها كالغريب أو المسافر الذي يوشك أن يتركها وأن يُفارقها إلى غيرها، وأيضًا خَلْعه لملابسه الرَّاقية -والتي قد تكون غالية الثَّمَن- عند إحرامه، وارتداؤه لرداءٍ وإزار يدعوه ذلك إلى الزهد، كما أنَّ أفضل الحُجَّاج الشُّعث الغُبْر.
تاسعًا: تذكُّر اليوم الآخر؛ فخروج العبد من بيته، ومفارقته لأهله وأقاربه، يُذكِّره بمفارقته لهم عند موته، وانتقاله من الحياة الدُّنيا إلى حياة البَرزخ، وتجرُّده من اللباس والزِّينة عند إحرامه من الميقات وارتداؤه لملابس الإحرام، يذكِّره بتجرُّده من ملابس الدنيا وزينتها، واستبدالِ الكفن بذلك، واجتماع الناس وكَثْرتهم وازدِحامهم في موقف عرفات، يذكِّره باجتماع العبَاد بين يدي ربِّ الأرباب لفصل الخطاب.
عاشرًا: تذوُّق حلاوة الذِّكر ولَذَّة المناجاة، قال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الحج: 28] [الحج: 28]، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ”(رواه أبو داود، وحسَّنه الأرناؤوط).
الحادي عشر: اكتساب الأخلاق الحسنة؛ كالصبر، والتواضع، والرِّفق، والبَذْل والعطاء، والابتعاد عن الأخلاق السيِّئة؛ كأذيَّة الآخرين، والتكبُّر عليهم، والبخل، والفسوق، والمُجادَلة بالباطل: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[البقرة:197].
الثاني عشر: تذكير الأمَّة بأنَّ لها تاريخًا مجيدًا، وسلفًا عظيمًا، وربْطُها بذلك؛ فعندما يحطُّ الحاجُّ رحاله في تلك البقاع المقدَّسة يتذكَّر مَن عاش في تلك البقاع، ومن سار فيها من الأنبياء والرسل، والصحابة الكرام، والأئمة الأعلام.
الثالث عشر: تعميق الأخوة الإيمانية، والوحدة الإسلامية؛ فالحُجَّاج يجتمعون على اختلافٍ بينهم في اللُّغة والجنس والعِرْق واللَّون والوطن، في مكانٍ واحد، وزمان واحد، ومَظْهَر واحد، يسألون ربًّا واحدًا، ويتَّجِهون إلى قبلةٍ واحدة، ولغايةٍ واحدة؛ فذلك مما يعمِّق الأخوَّة الإيمانيَّة في نفوسهم، ويكون مَدْعاة لهم إلى الوحدة الإسلاميَّة وَفْق منهج الله المستمَدِّ من كتابه وسنَّة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
الرابع عشر: التعود على النظام والانضباط؛ فللحجِّ مواقيتُ مكانيَّة وزمانية يجب التقيُّد بها، وعدمُ الإخلالِ بها، أو التَّساهلِ فيها، وله أركانٌ وواجبات يجب الإتيان بها كما هي، من غير زيادة أو نقصان، وله محظورات يَحرُم اقترافُها.
الخامس عشر: إنجاز الأعمال أولاً بأول، وعدم تأخيرها، ففي كلِّ يومٍ من أيام الحجِّ يعملون أعمالاً تختلف عن اليوم الذي قبله، ولا يؤخِّرون عمل يومٍ ليوم آخَر، بل هم في حركةٍ مستمرَّة، وعملٍ دَؤوب، فينجزون أعمالاً كثيرة في أيامٍ قليلة.
السادس عشر: فقه التعامل مع الخِلاف والمُخالِف؛ فعندما نتأمَّل في مناسك الحجِّ نجد أنَّ لها صوراً مختلفة؛ فمِن الحُجَّاج من يحجُّ مُفرِدًا، ومنهم من يحجُّ قارِنًا، ومنهم من يحج متمتِّعًا، وذلك أفضل، ونجد أنَّ الحُجاج يختلفون في أعمال يوم النَّحر؛ فمنهم من يحلق، وذاك أفضل، ومنهم من يُقَصِّر، ومنهم مَن يقدِّم الهَدْي على الرَّمي، ومنهم يفعل العكس؛ ولا حرج عليهم في ذلك.
ويختلفون في مغادرة مكَّة والخروج منها، فمنهم المتعجِّل، ومنهم المتأخر: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى)[البقرة: 203]، ومع اختلافهم في ذلك نجد أنَّهم إخوة متحابُّون في الله، لا يحصل بينهم شجارٌ ولا خِصام، ولا تَدابُر ولا تقاطُع، قد صفت نفوسهم من البغضاء والشحناء.
السابع عشر: الحج يمحو الله به الخطايا ويكفر السيئات، ويزيد الحسنات، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: “مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ”(رواه البخاري ومسلم)، وعن ابن عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا لَا يَضَعُ قَدَمًا، وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَكَتَبَ لَهُ بها حسنة، ورفع له بها درجة”(رواه ابن حبان وصححه الألباني).
الثامن عشر: الحج المبرور جزاؤه الجنة، ويالعظم الجزاء؛ إذ هي أعظم المقاصد، ومُنتهى الغايات التي يسعى المؤمن لأجلها طول حياته، كي يفوز بها ويظفر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ”(رواه البخاري ومسلم).
فطوبى لمن حج البيت وقد رجع بالفضل والأجر، والمنافع العظيمة الدنيوية والأخروية، كان بعض الصالحين يتحسر إذا فاته الحج، ويقول: “لئن سار القوم وقعدنا، وقربوا وبعدنا؛ فما يؤمننا أن نكون ممن (كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)[التوبة:46]”.