اختر صفحة

لقد أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بتذكير الناس ووعظهم قال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى)[الأعلى:9]؛ فامتثل أمر ربه سبحانه، فكان يتخول الصحابة بالموعظة وتذكيرهم بما يقربهم إلى الله زلفى.

 

وسنتطرق هنا عن معالم منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الوعظ وإلقاء المواعظ، فإن لها سمات مهمة، من ذلك:

 

1- الحرص على الاقتصاد في الموعظة وعدم إملال السامعين:

 

عَنْ شَقِيقٍ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: “كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ يُذَكِّرُنَا كُلَّ يَوْمِ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! إِنَّا نُحِبُّ حَدِيثَكَ وَنَشْتَهِيهِ، وَلَوَدِدْنَا أَنَّكَ حَدَّثْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ. فَقَالَ: مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ إِلاَّ كَرَاهِيَةُ أَنْ أُمِلَّكُمْ. إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا”(أخرجه مسلم:2821).

 

فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعاهد أصحابه بالموعظة المرققة التي تحيي واعظ الله في القلب، كل فترة قصيرة، بدون إملال ولا ضجر عليهم، فيوصل رسالته الدعوية الوعظية برفق وتؤدة، ويُقبِل بقلوب الناس عليه، ولا ينفرهم من مواعظه.

 

 

 

 

قال الشيخ محمد عبد العزيز الخولي: “وهذا قدوة المؤمنين -صلى الله عليه وسلم- كان يتفقد الأوقات المناسبة للصحابة فيعظهم ويعلمهم؛ ويجعل من حوادثهم وأحوالهم عظات بالغات، ودروسًا جمة المنافع، وما كان يداوم عليهم بذلك؛ مخافةَ أن يلحقهم الملل والضجر فيسأموا وينصرفوا عن سماعه وقبول قوله؛ ولكنه كان كالطبيب يعطي من الدواء بالمقدار الملائم للمرض، ويتمشى معه في طريق العلاج؛ مترقيًا في مقادير الدواء حتى لا يمل المريض ويكره الدواء فيصعب علاجه ويستفحل داؤه ويعز شفاؤه.

 

وفي الحق إن للنفوس أوقاتًا تكون فيها راغبة في العلم تواقَّة إلى سماع الموعظة، وذلك عند صفائها واستراحتها من العناء والمشقة؛ وحين ذاك ينبغي أن تتبلغ منهما بما يناسب مقدارًا ومادة، وإن لها أوقاتًا تكون فيها مكدودة ضجرة، قد أثقلتها متاعب الحياة وشغلتها صوارف الأيام؛ فلا تقبل علمًا ولا تُقبل على عالِم، بل تنفر وتفر هاربة لا تلوي على نصح ناصح، ولا تصيخ إلى وعظ مرشد، ومن الخطل في الرأي أن يبتغي الناصح لها في تلك الأوقات رشدًا، أو يرقب إصلاحًا، فعلينا أن نقتدي بالرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك”(الأدب النبوي؛ للخولي:ص250-251).

 

 

 

 

وقال الشيخ حمزة محمد قاسم: وفيه: “استحباب اختيار الأوقات المناسبة للموعظة، وعدم الإكثار منها، ليستفيد بها السامعون، لأن الإكثار منها يُمِلُّهم وينفرهم. وأن من السنة الاقتصاد في نوافل الطاعات والعبادات من صيام وقيام وإعطاء النفس حقوقها الطبيعية حتى تقبل على الطاعة في شوق ورغبة فتكون أجدى لها وأكثر نفعًا”(منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري:1-172).

 

 

 

 

2- الحرص على المواعظ الجامعة المؤثرة:

 

كانت مواعظ النبي -صلى الله عليه وسلم- كلمات موجزة، من جوامع الكلم التي أوتيها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان يختار في وعظه الكلمات المؤثرة، والجمل التي تطرق القلب، وتؤثر فيه، ومن ذلك ما صح عن الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيةَ -رضي الله عنه- قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً؛ ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: “أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ”(أخرجه أبو داود:4607، والترمذي:2676، وابن ماجه في المقدمة، وصححه الألباني).

 

 

 

 

وكان -صلى الله عليه وسلم- يثني على الواعظ الذي يقتصد في موعظته ويصفه بالفقه في الدين، فعَنْ وَاصِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ! لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ -يعني أطلت الموعظة-. فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: “إِنَّ طُولَ صَلاَةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاَةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا”.( أخرجه مسلم:869).

 

 

 

 

ولا شك أن بلاغة الموعظة من عوامل تأثيرها وغزوها للقلوب، لذا قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: “البلاغة في الموعظة مستحسَنة؛ لأنها أقرب إلى قبول القلوب، واستجلابها، والبلاغة هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة، من الألفاظ الدالة عليها، وأفصحِها، وأحلاهما للأسماع، وأوقعِها في القلوب”(جامع العلوم والحكم:2-86).

 

 

 

 

3- اغتنام تجمعات المسلمين:

 

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يغتنم المناسبات الكبرى، وتجمعات المسلمين في الجمعة والجمع والحج والأعياد، وغيرها، فيلقي مواعظ ينفع الله بها المسلمين، ففي أيام الجمع يكثر من مواعظ الجمعة، فعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُخْتٍ لِعَمْرَةَ قَالَتْ: “أَخَذْتُ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَقْرَأُ بِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ”(أخرجه مسلم:872).

 

 

 

 

ولا يخفى الوعظ في سورة ق، وما تضمنته من مواعظ ذكر الموت وما بعده، وذكر الجنة والنار؛ فهكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغتنم موعظة الجمعة لوعظ القلوب الغافلة، وإحياء النفوس الميتة، وردّ الشاردين إلى ربهم بحُسن الموعظة.

 

 

 

 

وفي أيام الأعياد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعظ النساء بعد الفراغ من موعظة الرجال، ويذكِّرهن بالصدقة لاتقاء النار، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: “شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلاَةَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلاَةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلاَلٍ فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ وَوَعَظَ النَّاسَ، وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، فَقَالَ: “تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ”، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ، فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “لأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ”، قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلاَلٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ”(أخرجه مسلم:885).

 

 

 

 

وفي موسم عظيم وأثناء فريضة عظيمة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الوعظ النافع، ففي موسم الحج قام النبي -صلى الله عليه وسلم- واعظًا لأصحابه، قال الراوي: “وَذَكَّرَ وَوَعَظَ”، فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي؛ أَنَّهُ شَهِد حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَكَّرَ وَوَعَظَ.

 

ثُمَّ قَالَ: أَيَّ يَوْمٍ أَحْرَمُ؟ أَيَّ يَوْمٍ أَحْرَمُ؟ أَيَّ يَوْمٍ أَحْرَمُ؟ قَالَ: فَقَالَ النَّاسُ: يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلاَ لاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ، وَلاَ يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ، وَلاَ وَلَدٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلاَ إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ، فَلَيْسَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ، إِلاَّ مَا أَحَلَّ مِنْ نَفْسِهِ.  أَلاَ وَإِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، لَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ، لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ، غَيْرَ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، أَلاَ وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ دَمٍ وُضِعَ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ دَمُ الْحَارِثِ ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي لَيْثٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ.

 

أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً، أَلاَ إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ، فَلاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلاَ يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، أَلاَ وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهنَّ فِي كِسْوَتِهنَّ، وَطَعَامِهِنَّ”(أخرجه أبو داود:3334، والترمذي:1163، 3087، وابن ماجه:1851، وحسنه الألباني).

 

 

 

 

4- إظهار الغضب في المواعظ العامة:

 

كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- إظهار الغضب في المواعظ المهمة التي تستلزم ذلك؛ كذكر القيامة، أو إذا خولف في أمر غضب لله؛ فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ – رضي الله عنه -، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: إنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ، مِنْ أَجْلِ فُلانٍ؛ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ، فَلْيُوجِزْ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ، وَالصَّغِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ”(أخرجه البخاري:6740، ومسلم:466).

 

 

 

 

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلاَ صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: “صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ”. وَيَقُولُ: “بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ”، وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَيَقُولُ: “أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ”. ثُمَّ يَقُولُ: “أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ “(أخرجه مسلم:867).

 

قال المباركفوري: “إنما يفعل -صلى الله عليه وسلم- ذلك لإزالة الغفلة من قلوب الناس؛ ليتمكّن فيها كلامه فضلَ تمكّن، أو لأنه يتوجّه فكره إلى الموعظة، فيظهر عليه آثار الهيبة الإلهيّة”(مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح:4/496– 467).

 

 

 

 

وقال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه الله تعالى-: “كونه -صلى الله عليه وسلم- تحمرّ عيناه، ويعلو صوته، ويشتدّ غضبه في حال خطبته كان هذا منه في أحوال، وهذا مُشعرٌ بأن الواعظ حقّه أن يكون منه في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلّم فيه ما يطابقه؛ حتّى لا يأتي بالشيء وضدُّه ظاهرٌ عليه، وأما اشتداد غضبه، فيَحتَمِل أن يكون عند نهيه عن أمر خُولف فيه، أو يريد أنّ صفتَه صفة الغضبان”(المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم:2-506).

 

 

 

 

وقال تاج الدين الفاكهاني: “فيه: دليلٌ على غلبة الخوف، وشديد الموعظة، وترجيحِ ذلك على إشاعة الرُّخَص؛ لما يؤدّي ذلك من التسبُّب إلى تسامح النفوس؛ لما جُبلت عليه من الإخلاد إلى الشهوات، والميلِ إلى اللذات، وذلك من مرضها الخطر، والطبيبُ الحاذقُ يقابل العلَّة بضدِّها، لا بما يزيدُها”(رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام:3-109).

 

 

 

 

فالواعظ ينبغي أن تكون انفعالاته وحركاته على حسب أهمية ما يلقى على السامعين؛ كما جاء في فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأقوال العلماء الذين شرحوه؛ حتى لا يكون طريقة وعظه مخالفاً للمعاني التي يلقيها؛ فمثلا: الاستفهام والتعجب له كيفية صوتية، وكذلك التوبيخ واللوم، والزجر والعتاب، لها  طريقة صوتية في الإلقاء تدل على المراد. فإذا طبقها الواعط بالطريقة الصحيحة استثار بذلك السامعين، ولفت انتباههم، وحصل لهم الاستفادة من الموعظة؛ إذ هي مقصود الشريعة من ذلك.