وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
بعد أن أكمل نبي الله إبراهيم -عليه السلام- بناء البيت الحرام أمره ربه تعالى أن ينادي في الناس؛ ليقصدوا البيت الحرام ملبين داعي الله لهم بالحج، قال تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحج:27]؛ “أي: أعلمهم به، وادعهم إليه، وبلغ دانيهم وقاصيهم، فرضه وفضيلته، فإنك إذا دعوتهم، أتوك حجاجا وعمارا، رجالا أي: مشاة على أرجلهم من الشوق، (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ)؛ أي: ناقة ضامر تقطع المهامه والمفاوز، وتواصل السير حتى تأتي إلى أشرف الأماكن، (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)؛ أي: من كل بلد بعيد، وقد فعل الخليل -عليه السلام-، ثم من بعده ابنه محمد صلى الله عليه وسلم، فدعيا الناس إلى حج هذا البيت، وأبديا في ذلك وأعادا”(تفسير السعدي).
فياله من نداءٍ عظيم يتردد صداه في الأرجاء على مرّ العصور والأيام، تتشربه القلوب ويتغلغل في النفوس، يسعد به من استجاب له ولباه؛ فطوبى لمن توافد مع وفود الرحمن في تلك الرحلة العظيمة التي ابتدأها إبراهيم -عليه السلام-، وستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أعدادٌ كبيرة ممن لبى هذا النداء العظيم من شتى أقطار الدنيا كلها تأتي كل عامٍ على مدار التاريخ؛ لتجيب هذا النداء وتلبي ذاك الدعاء، يفدون إلى بيت الله الحرام زرافاتٍ ووحداناً من كل مكان، يقطعون الفيافي والقفار، ويركبون عباب البحار، ويطيرون في جو السماء، غير مبالين بتعبٍ ولا مشقة، استسهلوا كل صعب تلبية لنداء الله واستجابة لأمره، آمِّين هذا البيت ولسانهم يردد: “لبيك اللهم لبيك”.
لقد بني الإسلام على خمسة أركان لا يستقيم دين المرء إلا عليها مكتملة؛ فمن أنقص منها ركناً واحداً ففي إسلامه خلل، وإن خامس هذه الأركان هو حج بيت الله الحرام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان”(متفق عليه)، فعلى المسلم الاستجابة لأمر الله تعالى الذي أوجب الحج على عباده، قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )[آل عمران: 97].
إن بعض المسلمين يتكاسل عن أداء هذه الفريضة بلا عذر مشروع سوى الانشغال بأمور الدنيا والتسويف من عامٍ إلى آخر، هذا مع تيسر السبل وسهولة السفر في زماننا هذا؛ فلقد كان آباؤنا وأجدادنا يقطعون المسافات الطويلة ليل نهار شوقاً إلى بيت الله الحرام، وتلبيةً لنداء الله الذي أمر به إبراهيم -عليه السلام- بأن ينادي به في الناس، كانوا يقطعون شهراً كاملاً أو أكثر في ذهابهم إلى الحج، وشهراً آخر في رجوعهم منه دون كللٍ ولا مللٍ ولا تقاعس، بل بشوقٍ عظيم ولهفةٍ شديدة، ونحن اليوم ولله الحمد ننعم بتيسير الله لنا الأسفار بلا مشقة ولا تعب، في راحةٍ ويسر وقصر مسافة، ورغم ذلك يصم بعض المسلمين آذانهم عن سماع نداء الله لهم بالحج، إنهم والله لمحرومون مصروفون عن الخير.
وكيف لا يكون محروماً من قدر على أداء الحج فأعرض عنه تكاسلاً وانشغالاً بالدنيا؟! أخرج ابن حبان والبيهقي من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “قَالَ الله: إِن عبدا أصححت لَهُ جِسْمه ووسعت عَلَيْهِ فِي الْمَعيشَة تمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لَا يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ”(صححه الألباني)، فإن كان من لا يحج في كل خمسة أعوام محروماً؛ قد حرم نفسه الأجر وعظيم الفضل، فما حال من لم يحج عمره كله حج الفريضة؟ لا شك أنه أشد حرماناً وبعداً عن الله تعالى!.
فيا من قدر على الحج: حُج إلى بيت الله وأد فرضك قبل أن لا تستطيع الحج! حُج بنفسك قبل أن تبحث عمن يحج عنك لعجزك ومرضك، أو قبل أن يحج عنك أقاربك بعد موتك! أحمد الله تعالى أن منحك القوة البدنية، والقدرة المالية، ويسر لك سبل الحج، وإن من تمام شكر الله على نعمه هذه أن تسارع إلى تؤدي ما فرضه الله عليك، فكم من مسلم حبسه العذر وهو في شوقٍ وحنينٍ شديد إلى تلك البقاع المقدسة، حبسه مرضه وفقره وحاجته!.
ألا فليحمد الله عز وجل من مد الله في عمره وأنسأ له في أجله، ورزقه الصحة والعافية، وأغدق عليه من الرزق والمال؛ إذ أن بعض المشتاقين إلى الحج له سنوات يجمع لأداء هذه الفريضة درهما درهما وفلسا فلسا، يقتطعها من قوته وقوت أهله وأبنائه، حتى يكمل المال الذي يعينه على أداء هذه الفريضة العظيمة، فيلبى نداء الله مع الذين يأتون للبيت الحرام من كل فج عميق.
نداء الله إليك بالحج وزيارة بيته، فإن تكاسلت وأعرضت فإن الله غني عنك وعن طاعتك، قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 97]، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار؛ فلينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين”، “فكيف تطيب نفس المسلم أن يترك الحج إلى بيت الله الحرام مع قدرته عليه، وسهولة الوصول إليه؟! وكيف يؤخره وهو لا يدري لعله لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه؟! فقد يكون عاجزاً بعد القدرة، وقد يكون فقيراً بعد الغنى، وقد يموت وقد وجب عليه الحج، ثم يفرط الورثة في قضائه عنه”(مجموع فتاوى ورسائل العثيمين).
فإلى كل من فرط في أداء حجه: لا تغرنكم هذه الدنيا وزينتها؛ فمهما عشتم فيها فإنكم تاركونها خلف ظهوركم، وسيسألكم الله عن ما فرضه عليكم؛ أديتم أم فرطتم؛ فمن لبى نداء الله وأجاب فقد سعد وفاز، ومن فرط وأعرض فقد شقي وخسر.