وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
الدعاء من أعظم مقامات العبودية؛ لأنه إظهار الافتقار إلى الله -تعالى-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ” [رواه ابن حبان]، وهناك أزمنةٌ ترتجى فيها الإجابة كوقت السحر وفي الثلث الأخير من الليل، وبين الأذان والإقامة.
وفي رمضان يستجاب الدعاء، وللصائم دعوةٌ مستجابة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “ثلاثة لا تُردُّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يُفطِر، ودعوة المظلوم” [رواه أحمد والترمذي]، وعن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسولَ الله -صلَّى الله عليْه وسلَّم- يقول: “إنَّ للصَّائم عند فِطْرِه دعوةً ما تُرَدُّ” [رواه ابن ماجه، وحسنه أحمد شاكر]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ولله عتقاء في كل يوم وليلة، لكل عبد منهم دعوة مستجابة” [رواه أحمد، وصححه أحمد شاكر].
ومما يدل على أهمية الدعاء وعظيم مكانته في شهر رمضان أن قوله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] قد جاء بين آيات الصيام وفي أثنائها، فبدأ الله -تعالى- الكلام عن الصيام بوجوبه وفرضيته على المؤمنين، ثم عن إنزال القرآن في رمضان، ثم تحدث عن قربه -سبحانه- من عباده واستجابة دعائهم، ثم شرع في تتمة أحكام الصيام بعد أن ذكر آية القُرْب والدعاء
“وقبل أن يمضي السياق في بيان أحكام تفصيلية عن مواعيد الصيام، وحدود المتاع فيه وحدود الإمساك نجد لفتة عجيبة إلى أعماق النفس وخفايا السريرة، نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم، والجزاء المعجل على الاستجابة لله، نجد ذلك العوض وهذا الجزاء في القرب من الله، وفي استجابته للدعاء، تصوره ألفاظ رفافة شفافة تكاد تنير {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان.. أية رقة؟! وأي انعطاف؟! وأية شفافية؟! وأي إيناس؟! وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود، وظل هذا القرب، وظل هذا الإيناس؟!.
وفي كل لفظ في التعبير في الآية كلها تلك النداوة الحبيبة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} إضافة العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه، لم يقل: فقل لهم: إني قريب.. إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال.. قريب، ولم يقل أسمع الدعاء، إنما عجل بإجابة الدعاء: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.
إنها آية عجيبة.. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين.. ويعيش منها المؤمن في جناب رضيّ، وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين”.
في شهر رمضان يكون العبد أقرب إلى الله -تعالى- منه في غيره من الأزمنة والشهور، هذا القرب الروحي يشعر به كل مؤمن ذاق حلاوة الصيام والطاعة؛ فكثرة الطاعات والبعد عن المعاصي، وملازمة القرآن، وما يحدثه الصيام من ازدياد في الإيمان، وما يثمره من تقوى في القلب؛ يجعل المؤمن أقرب ما يكون إلى الله -تعالى-، فلكأن روحه تحلق في الملكوت الأعلى، يشعر الصائم بذلك السمو الروحي والقرب الإلهي، فيكثر رجاءه في الله وأمله في مولاه؛ أن يتقبل منه طاعاته، ويدخله في مرضاته، ويغفر له زلاته، وأن يجعله من عتقائه.
ولا سبيل إلى ذلك القبول الإلهي والعفو الرباني إلا بالتذلل إلى الله -تعالى- ودعاءه، وإذا علم العبد بأن له دعوةٌ مستجابه حال صومه؛ ازداد رجاؤه في ربه أن يستجيب له؛ فحريٌ بالصائم أن يكثر من دعاء الله -تعالى-، فقد اجتمع له شرف الزمان وعبادة الصيام وخصوصية الدعاء.
فاجتهد -أخي المسلم- في الدعاء حال صيامك، قال النَّوويُّ: “يُستحبُّ للصَّائم أن يدعوَ في حال صوْمِه بمهمَّات الآخِرة والدنيا، له ولمن يحبُّ وللمسلمين”، وتحرَّى أوقات الإجابة خاصةً منها عند إفطارك، قال ابنُ أبي مليكة: سمعتُ عبدالله بنَ عُمَر -رضي الله تعالى عنْهما- إذا أفطر يقول: “اللَّهُمَّ إنِّي أسألُك برحمتِك التي وسعَتْ كلَّ شيءٍ أن تغفِرَ لي” [رواه ابن ماجه، وضعفه الألباني]، وعنه -رضي الله تعالى عنْهما- قال: كان النبيُّ ? إذا أَفْطَرَ قال: “ذهب الظمأُ، وابْتَلَّتِ العروقُ، وثبت الأجرُ -إن شاء اللهُ-“(أبو داود، وحسنه الألباني).
وليدعو المسلم بما شاء من أمور الآخرة ومن أمور الدنيا، قال المناوي عن دعوة والصائم حين يفطر: “ومراده كامل الصوم الذي صان جميع جوارحه عن المخالفات، فيجاب دعاؤه لطهارة جسده بمخالفة هواه”، قال الشيخ محمد بن عثيمين: “الدعاء يكون قبل الإفْطار عند الغروب؛ لأنَّه يجتمع فيه انكِسار النَّفس والذُّلُّ، وأنَّه صائم، وكلُّ هذه أسباب للإجابة، وأمَّا بعد الفِطْر فإنَّ النفس قدِ استراحت وفرِحَت، وربَّما حصلت غفلة، لكن ورد دُعاء عنِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليْه وسلَّم- لو صحَّ؛ فإنَّه يكون بعد الإفْطار، وهو: “ذهب الظَّمأ، وابتلَّت العروقُ، وثبت الأجر، إن شاء الله”، فهذا لا يكون إلاَّ بعد الفطر”.
أخي الصائم: الدعاء الدعاء؛ فشهر رمضان شهر الدعاء، والله -عز وجل- قريبٌ منك يجيب دعاءك، وأنت في رمضان أقرب إلى الله منك في غيره، والصوم من أجل العبادات وأحبها إلى الله؛ فإياك أن يحول بينك وبين الدعاء مانع، وقد قال -تعالى- متوعداً من ترك دعاءه: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، لا يشغلنك عن دعاء الله شاغل، تذلل إلى مولاك واظهر افتقارك وضعفك؛ فالله يحب ذلك من عبده المؤمن.