وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ
إن من خصائص شهر رمضان المبارك أن الشياطين تصفد فيه وتغل؛ ففي الحديث المتفق عليه عَن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ”؛ ولذلك “لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره؛ لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات وبقراءة القرآن والذكر” [فتح الباري].
والمسلم يرى أثر تصفيد الشياطين ظاهراً في شهر رمضان؛ فالمسلمون يقبلون على المساجد ويحافظون على الصلوات جماعة في المساجد, حيث نراها مزدحمةً في جميع الصلوات, ويكثر في رمضان فعل الخير والإحسان إلى الناس, والإنابة إلى الله -تعالى-, وتقل المعاصي والذنوب, ويشعر المسلم في رمضان بقربه من الله -تعالى-, وبروحانية لا يشعر بها في غير رمضان.
وهذا لا يعني أن المعاصي تزول تماماً؛ فقد تقع في رمضان بعض المعاصي من بعض المسلمين مع تصفيد الشياطين؛ وهذا لا ينافي الخبر النبوي, وقد أجاب العلماء عن وجود بعض المعاصي في رمضان بإجابات منها:
الأول: أن المردة وهم عتاة الشياطين وأخبثهم هم الذين يسلسلون ويصفدون في شهر رمضان، دون غيرهم من سائر الشياطين؛ ففي رواية عند أحمد وغيره: “وَيُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ؛ فَلَا يَخْلُصُوا فِيهِ إِلَى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ”.
الثاني: أن المعاصي ليس مصدرها الشياطين فقط؛ فلها مصادر وبواعث أخرى؛ كالنفس الأمارة بالسوء، واتباع الهوى، والغفلة.
الثالث: أن تصفيد الشياطين في رمضان يمنع وقوع معظم المعاصي التي تقع في غير رمضان، ولذلك لو نظرنا مثلاً: إلى أصحاب الكبائر نجد الواحد منهم يكف عن معصيته في رمضان؛ فقوله -عليه الصلاة والسلام-: (وصفدت الشياطين) أي: قلَّت المعاصي وحُجِّمت لا أنها انعدمت بالكلية, وهذا نتيجة تصفيد الشياطين، وقلة إغوائهم لأصحاب المعاصي.
قال القرطبي: “لا يلزم من تصفيد جميع الشياطين ألاَّ يقع شرّ؛ لأنَّ لوقوع الشرّ أسبابًا أُخَر غير الشياطين، وهي: النفوس الخبيثة، والعادات الركيكة، والشياطين الإنسيَّة… والمقصود: تقليل الشُّرُورِ، وهذا موجود في شهر رمضان؛ لأنَّ وقوع الشرور والفواحش فيه قليلٌ بالنسبة إلى غيره من الشهور” [المفهِم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم].
وللأسف الشديد؛ فإن أناساً يحلون محل الشياطين إذا صفدت وقيدت في رمضان؛ يؤدون عمل الشياطين, فتراهم بعيدين عن الخير, محرومين من الفضائل, منساقين وراء الرذائل, يلهثون خلف الشهوات, لا يعرفون لرمضان حرمة, ولا يقدرون له روحانية, ولا يرجون لله فيه وقاراً.
هؤلاء هم شياطين الإنس الذين يستعدون منذ أشهر طويلة قبل رمضان؛ لإغواء المؤمنين عن طريق البرامج والمسلسلات, والأغاني والمسابقات, برامج تاهفة غير هادفة, إلا هدم الحكمة من الصيام, وتضييع الأوقات فيما يغضب رب الأرض والسموات, وسرقة حسنات المؤمنين في الأيام والليالي الفاضلات؛ فأمثال هؤلاء الشياطين الإنسية المطلقة في رمضان ينبغي الحذر والتحذير منهم, فهؤلاء أشد فتكاً بعبادة الصائمين من الشياطين المصفدة التي توسوس؛ لأن هؤلاء يزيدون على وسوستها بما يزين للناس تضييع أوقاتهم، وإشغالهم بما يضرهم ولا ينفعهم.
والداهية العظمى أن بعض هذه المسلسلات المخصصة لرمضان فيها غمز ولمز بالمؤمنين والمؤمنات, واستهزاء ببعض شعائر الدين، وتهكم وسخرية بالملتزمين, يدعون فيها إلى التحرر من الأخلاق الكريمة والضوابط الشرعية؛ فالحذر منهم في غير رمضان وفي رمضان أوجب لفضيلة الزمان وشرف العبادة, قال -تعالى-: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140].
فيا من ألِف الذنوبَ وأجرمَا! يا مَن غدا على زلاّته متندِّمَا! تُب فدونك المنى والمغنمَا، والله يحبّ أن يجود ويرحمَا، ويُنيلَ التّائبين فضلَه تكرُّمًا .
يا من أوردَ نفسَه مشارعَ البوَار، وأسامَها في مسارح الخَسار، وأقامَها في المعَاصي والأوزار! كم في كتابك من زَلل!، كم في عملِك من خلَل!، كم ضيّعتَ واجبًا وفرضًا!، كم نقضتَ عهدًا محكمًا نقضًا!؛ فبادِر التّوبة ما دمتَ في زمن الإنظار، وأقلِع عن الذنوب والأوزار، وأظهِر النّدم والاستغفار؛ فإنّ الله يبسُط يده بالنّهار ليتوبَ مسيء الليل، ويبسط يدَه باللّيل ليتوبَ مسيء النّهار.
يا أسيرَ المعاصي! يا سجينَ المخازي: هذا شهرٌ يُفَكّ فيه العاني، ويعتَق فيه الجاني، ويتجَاوَز عن العاصي؛ فبادِر الفرصَة، ولا تكن ممّن أبى، وخرج رمضان ولم ينَل فيه الغفرانَ والمُنى.
والله إن المحروم من حرم الخير في رمضان, المحروم من ضيع أوقاته وأشغل نفسه في رمضان بالتفاهات والسفاهات, واصطادته شياطين الإنس في شباكها, وكلما جمع حسناتٍ في النهار طارت منه في الليل, قد ضيعها بالنظرات المحرمة والكلمات البذيئة، وقد فتح أذنه لأهل الفسق والفجور يملؤونها بما يغضب الله ورسوله في أفضل الأيام وأعظم الليالي!.
لقد صعد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- المنبَر فقال: “آمينَ آمينَ آمين”، فقيل: يا رسول الله! إنّك صعدت المنبر فقلت: آمين آمين آمين!! فقال: “إنّ جبريلَ -عليه السلام- أتاني فقال: “مَن أدرك شهرَ رمضانَ فلم يُغفَر له فدخَل النار فأبعَده الله قل: آمين، قلت: آمين” [أخرجه ابن خزيمة وابن حبان].
فيا أيها المسلم الصائم: قد حبس الله عنك عدوك شهراً؛ ليعينك على الطاعة وكَأَنَّهُ يُقَالُ لَك: “قَدْ كُفَّتِ الشَّيَاطِينُ عَنْكَ؛ فَلَا تَعْتَلَّ بِهِمْ فِي تَرْكِ الطَّاعَةِ ولا فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ” [فتح الباري], فأرِ الله من نفسك خيراً.