اختر صفحة

يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ

يتميز دين الإسلام بخصائص تتناسب مع أحوال الناس، وما يمرون به من ظروف مختلفة، فجاء هذا الدين العظيم يحمل في تشريعاته السماحة واليسر؛ فلا تخلو فريضة من فرائضه ولا شعيرة من شعائره إلا وقد أضفى الله عليها من التيسير ما يجعل المسلم قادرًا على تطبيقها والقيام بها في جميع الأحوال.

والدين الإسلامي بمجمله قائم على التيسير ورفع الحرج، وقد أشار الله -تعالى- إلى هذا الأصل في مواطن كثيرة من كتابه الكريم، منها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقوله -عز وجل-: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، وقوله -تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]. وهذه الآية قد وردت في الحديث عن شهر رمضان وتخفيف الله عن عباده، ويتجلى تيسير الله على المؤمنين في فريضة الصيام في الأمور الآتية:

جاء تشريع الصوم تدريجياً ولم يفرض ابتداءً؛ ككثير من التشريعات التي تتعلق بنقل المكلفين من إلف العادات كتحريم الخمر مثلاً، فكان التخيير أولاً للمسلم بين الصيام والفدية، مع الترغيب في الصيام وبيان أفضليته، قال -تعالى-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184]، ثم نزل الأمر بفرضية الصيام بعد ذلك بقوله -تعالى-: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].

ومن مظاهر التيسير في الصيام: أنه لم يفرض إلا في شهر واحد من السنة وهو شهر رمضان، وقد قال -تعالى- في بيان ذلك: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184]؛ فهي أيامٌ قلائلُ معدودةٌ، فلم يفرض الدهر كله تخفيفاً ورحمةً بالمؤمنين، وقد عبَّر عن الشهر كله بلفظ “أيام” وهي جمع قلة، ووصفها بـ “معدودات” وهي جمع قلة أيضا؛ تهوينا لأمرها على المكلفين، وهذا تيسير وتخفيف في زمن هذا الفرض؛ إذ يستطيع المؤمن أداءه من غير عنت ولا مشقة، والمؤمنون مخاطبون بأدائه جميعا في وقت واحد؛ مما يجعله يسيراً في الأداء لوجود الأعوان عليه.

ومن مظاهر التيسير في الصيام: أن وقت الصيام محدَّدٌ من الفجر إلى غروب الشمس، ويحرم الزيادة على هذا الوقت، ومن أجل ذلك نهى الشارع عن الوصال في الصوم، وهو وصل صيام يومين أو ثلاثة أيامٍ متتاليات؛ لما في ذلك من المشقة والعنت على النفس؛ لقول -النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “لَا وِصَالَ فِي الصيام” [رواه أحمد وابن حبان].

ومن مظاهر التيسير في الصيام: جواز الإفطار في حال المرض أو السفر؛ لقوله -تعالى-: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]؛ أي: يريد الله بهذا الترخيص للمريض والمسافر التيسير عليكم لا التعسير، وقد كان يقوم مقام هاتين الجملتين جملةٌ واحدة نحو أن يقول: “ما يريد بكم إلا اليسر”، لكنه عدل عن جملة واحدة إلى جملتي الأولى: إثبات التيسير، والثانية: نفي التعسير؛ لأن المقصود ابتداء هو جملة الإثبات؛ لتكون تعليلا للرخصة، وجاءت بعدها جملة النفي تأكيدا لها، وبياناً لسماحة الإسلام وتيسيره.

وقد أخذ الصحابة بهذه الرخصة الربانية وعملوا بها؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: “كنا نسافر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يَعِب الصائمُ على المفطر، ولا المفطرُ على الصائم” [رواه البخاري ومسلم]، فإن شق الصوم على المسافر فيجب أن يأخذ بما رخص الله له؛ لحديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلِّلَ عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصومُ في السفر” [رواه البخاري ومسلم]، ورواه النَّسائي بلفظ: “ليس من البر الصيام في السفر، عليكم برخصة الله -عزَّ وجلَّ -فاقبلوها”.

ومن مظاهر التيسير في الصيام: أن من أفطر مخطئاً أو ناسيًا فإنه يكمل صومه، ولا حرج عليه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا نَسيَ فأَكلَ وشربَ فَليُتِمَّ صَومَهُ، فإنما أطعَمَهُ الله وسَقاهُ”

ومن مظاهر التيسير في الصيام: أن من لم يستطع الصوم بصورة دائمة؛ كالمريض الذي لا يُرجى بُرؤه، والكبير الهرم الذي لا يطيق الصيام؛ فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً.

ومن مظاهر التيسير في الصيام: التخفيف على الحائض والنفساء؛ فلا يجب عليها الصيام أداءً، بل لا يجوز أن تصوم حائض أو نفساء؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ” أليست إذا حاضت لم تُصلِّ ولم تَصُمْ؟” [رواه البخاري]، وإنما تقضي بعد رمضان الصوم وتسقط عنها الصلاة؛ لقول عائشة -رضي الله عنها-: “كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة” [رواه مسلم].

ومن مظاهر التيسير في الصيام: أن رخص الشارع للحامل والمرضع في الفطر؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “إن الله -عز وجل- وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم أو الصيام” [رواه أصحاب السنن وصححه الألباني].

فما أعظم تشريعات هذا الدين، وما أيسر تطبيقها والعمل بها! فالله -تعالى- حينما فرض صيام شهر رمضان لم يشق على عباده أو يكلفهم بما لم يستطيعوا، بل يسّر عليهم، فأباح الإفطار لأهل الأعذار ومن لا يطيق الصوم؛ رحمةً بهم وإحساناً وكرماً، وتخفيفاً على عباده المؤمنين، “إنَّ الدَّين يُسرٌ، ولَنْ يُشادَّ هذا الدَّينَ أَحدٌ إلا غَلَبَه” [البخاري]، وقد أوحى الله إلى رسوله الكريم أن يوجه أمته بالتيسير وينهاهم عن التعسير، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “يَسِّروا ولاَ تُعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا” [البخاري].